لا يشتجر إثنان في أن انتشار الفقر وسط قطاعات كبيرة من المجتمع جراء جملة مسوغات وأسباب يصعب مداواتها والإتيان عليها بين عشية وضحاها، وأن أكثر ما يحز في نفوس الغالبية العظمى أن الفقر لم يرخِ سدوله على العامة حتى يغدو سواء وإن تم ذلك لانحسرت موجة الغبن تجاه من استأثروا بالشق الأعظم من كيكة الموارد ولم يتركوا لمن سواهم سوى الاقتيات على فتاتها ،الأمر الذي عمق من الإحساس بالظلم جراء تفشي الضيم وانزواء العدالة والقسمة الضيزى لموارد البلاد إذ اختفت الطبقة الوسطى في المجتمع وذابت في حنايا الطبقتين العليا والدنيا مع التأمين على أن جل منسوبي الوسطى قد هبطوا إلى الدنيا وفي ذلك خطل عظيم وتجن واضح على الحقوق وصعود على أكتاف الغير . وأن أكثر ما يؤسف أن الحكومة يقع على عاتقها النصيب الأكبر مما وصل إليه الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد جراء سياساتها غير الرشيدة التي تجاهلت وأهملت البعد الاقتصادي وتناست في غمرة انشغالها بتمتين دعائم استمرارها في سدة الحكم غير مبالية حتى لو كان على حساب قطاع كبير من مواطنيها رغم ابتكارها وسعيها لمعالجة وتلافي ما أمكن من تدهور اقتصادي عبر ابتداع كثير من السياسات والإجراءات التي ينتظر أن تجسر هوة الفقر، وأن تعمل على تخفيف حدته بنسبة مقدرة لاسيما على المستوى الاقتصادي الذي تقود ترقيته إلى تحسن الحال الاجتماعي للفقراء والمساكين غير أن آليات الحكومة وأدواتها لمحاربة الفقر وخفض نسبته يستشف عجزها على إقالة عثرة من وقعوا فريسة وأسرى لجيوشه الجرارة التي انتشرت في شتى بقاع الوطن على اتساع رقعته ولم ينجُ من غزوها إلا قاطنو الأبراح العاجية وممتطو السيارات الفارهة وذوو الأحلام السندسية والمفارش المخملية . ولعل من أبرز الوسائل والطرق التي اهتدت إليها الحكومة لتخفيف حدة الفقر ما عرف بالتمويل الأصغر الذي كان له فعل السحر وقصب السبق في مداواة آثار الفقر ودحر جيوشه في دول صديقة على رأسها ماليزيا إذ قفزت من وهدة الفقر إلى مراقي عليا على صعيد الاقتصاد العالمي ليطل سؤال موضوعي ومنطقي عن أسباب قصور تجربة التمويل الأصغر بالسودان رغم ما يبذل لها من دعم سياسي وسند اقتصادي حيث أفرد لها بنك السودان المركزي حيز 12% من سقف التمويل المصرفي بالبلاد، الأمر الذي يوضح بجلاء أن قصور تجربة التمويل وعجزها عن تحقيق أهدافها السامية بعيد عن توفر التمويل . إذاً لابد أن ثمة معوقات أخرى حادت بالتجربة عن مقاصدها في تقديري الخاص المستمد من متابعتي واهتمامي بالملف الاقتصادى بالبلاد تكمن في قلة الوعي بمفهوم التمويل الأصغر ودواعيه وسط الفئات المستهدفة به التي سمتها القدرة على النشاط اقتصاديا إذ إن قطاع كبير لا يستهان به من الشريحة المستهدفة لم يسمع البتة عن التمويل الأصغر وماهيته وأهدافه ومراميه ،الأمر الذي أدى لأن يكون المستفيدين منه على قلتهم من من لهم خبرة ودراية بالنظام المصرفي والتعامل معه رغم أن ثمة مآخذ عدة على ضعف الفئة المتعاملة وبالتالي المستفيدة من تسهيلات المصارف إذ إنها بحسب بعض ما رشح من تقارير لا يتجاوز حجمها 20% من مجموع السكان فكم يا ترى نسبة طالبي التمويل الأصغر من هذه النسبة فالأمر إذا يحتاج إلى زيادة رقعة المتعاملين مع النظام المصرفي بالبلاد عبر تفعيل آليات تثقيف وتوعية تمكن من الاستفادة من المصارف لا أن تكون حكرا على فئة محدودة من السكان من أصحاب الحظوة والصفوة . فمن الوضعية هذه يتضح أن رسالة التمويل الأصغر لا يمكن أن تبلغ مبتغاها الأولي إذا لم تقو الجهات القائمة على أمرها على إيصال فكرتها للمستهدفين بها وما دام أن عجزها التام عن التحلل من قيود البيروقراطية والتعسف في المطلوبات والتشدد في الإجراءات الممهدة بل المؤهلة للحصول على التمويل الأصغر مستمرا إذ أن الضمانات المطلوبة للحصول على التمويل تعتبر بكل المقاييس حجر عثرة في سبيل الفقراء ومتوسطي الحال الراغبين في تحسين أوضاعهم الاقتصادية عبر إدارة ناشط اقتصادي يمكنهم من التغلب على أوضاعهم الحالية حيث لا تقبل المصارف بصورة عامة الضمان الشخصي من طالب التمويل إنما تتشدد في أن يأتي بضامن آخر من ذوي الكفاءة المالية المؤهلة لتغطية عجز سداد التمويل حال تعثر طالبه غير أن نسبة لضعف الثقة في نفوس الضامنين أهلية الفئة الطالبة للتمويل الأصغر في إدارة الأنشطة الاقتصادية فيزيد إحجامها عن تقديم الضمان عنهم فتكون النتيجة (جهجهتهم) وزيادة عنتهم في الحصول على من يقدم عنهم الضمان للمصارف حتى يتسنى لهم الحصول على التمويل فمسألة الضمان لابد أن تعالج بصورة عجلى حتى تكون سهلة في مقدور الفئة المستهدفة لجهة أن عسر وصعوبة الحصول على الضمان تشكل العامل الأكبر في ضعف نسبة نجاح تجربة التمويل الأصغر بالبلاد لأجل هذا إن كانت الحكومة جادة في إنفاذ التجربة أن تصدر أمرا مصرفيا للمصارف بقبول الضمان الشخصي من طالب التمويل لا من طرف ثانٍ فإن فعلت تكون قد قصرت المشوار على طالبي التمويل وكفتهم مؤونة طلب الضمان من آخرين ورفعت عن من يطلب منهم المستفيدون الضمان حرج الاعتذار . كما ينبغي على المسؤولين في دوائر القطاع الاقتصادي إعادة النظر في هامش الأرباح التي ينتظر عودتها إلى المصارف جراء عمليات التمويل الأصغر بحيث تكون قليلة جدا تتماشى مع الهدف الأسمى لفكرة التمويل الأصغر نفسها فواقع الأرباح الحالية تهزم فكرته تماما وتكرس لجني الأرباح للمصارف وإلا بماذا يفسر حصول المصرف على ما يفوق 30% من حجم التمويل الأصغر في بعض أشكاله ولماذا لا تستبدل صيغة التمويل من المرابحة والاتجاه إلى تفعيل القرض الحسن المنزوي أو المنعدم في اضابير مصارفنا رغم أن تعاليم ديننا الحنيف تحث عليه بشدة بحيث يكون الحاصل على التمويل مطالبا بسداد قيمة التمويل دون أدنى أرباح ولا أظن أن مثل هذا المطلب بكثير على المواطن البسيط ولتنظر إليه المصارف من زاوية المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتقها تجاه المواطنين ،ولتكن ساعدا قويا للحكومة وسياستها الكلية الرامية إلى رفاه المواطن وأن يعيش حياة كريمة ينعم فيها بالرعاية تحت كنف الحكومة ومؤسساتها ولكن أنى ذلك في ظل تكريس المصارف وحرصها البين على تحقيق مآربها ومصالحها الذاتية دون أدنى مراعاة لواجبها تجاه المجتمع وليس ثمة برهان أكبر من عدم انصياع كثير من المصارف لتوجيهات البنك المركزي بتخصيص 12% من سقف التمويل بها لصالح التمويل الأصغر، وأخشى أن يكون من بين المصارف ما يخصص نسبة لا تذكر لخدمة التمويل الأصغر وتحويل ما يفترض جُعله إلى ضروب أخرى من التمويل. خلاصة القول إن الشواهد والدلائل على تجربة التمويل الأصغر التي ناهزت الخمس سنوات من انطلاقها تقول إن محصلتها ضعيفة وآلياتها واهية وأنها بصورتها الحالية لن تحقق الهدف المنشود بل ارتبطت تجربته ببسط كثير من أسباب التعجيز لا التيسير في الحصول على التمويل رغم إنه أصغر لكن تعجيزاته أكبر ! فعلى الدولة الوقوف والعكوف على تمحيص تجربة التمويل الأصغر منذ انطلاقه لتعضيد الإيجابي منها وتلافي السوالب وإلا سيظل الفقراء على ما هم فيه من بؤس وضنك إلى أن يقضي الله أمرا في شأنهم .