مرَّ ما يناهز خمس سنوات من تجربة التمويل الأصغر التي ابتدعتها الدولة بغية المساهمة في تخفيف حدة الفقر عبر مساعدة الناشطين اقتصاديا وسط شرائح المجتمع الضعيفة، وأنشأت الدولة وحدة متكاملة ببنك السودان المركزي للإشراف وسن التشريعات ورسم السياسات لبلوغ الهدف المنشود، بيد أن واقع الحال وما تمور به الساحة من رؤى متباينة عن التجربة يفصح بجلاء أن ثمة ما يقتضي التوقف ملياً في محراب تجربة التمويل الأصغر، إذ أن هناك من يعتقد أنها لم ولن تؤتي أكلها في ظل الأداء الاقتصادي المهزوز، وارتفاع معدلات التضخم المتواصل، وانخفاض قيمة الجنيه، وتآكل رؤوس الأموال، وضعف المتابعة من قبل المصارف المانحة للتمويل، وتوجيه أموال المشاريع لغير وجهتها من قبل الحاصلين على التمويل. ودعا بعض الخبراء إلى إيقاف تجربة التمويل الأصغر حالياً والاتجاه إلى قضايا الاقتصاد الحقيقية، من رفع إنتاجية المشاريع مع الالتفات لتوسيع مظلة الضمان الاجتماعي، فيما دعا آخرون لإعادة النظر فيها وتلافي سلبياتها الحالية. يقول البروفيسور عصام بوب إن تجربة التمويل الأصغر بشكلها الحالي في البلاد لم تثبت جدواها أو فاعلية في لعب دور ملموس في تخفيف حدة الفقر والمساهمة في فك قبضته على فئات كبيرة، إذ أنها بحسب بوب لم تساعد في نهضة قطاعات الاقتصاد الحقيقية، حيث مازالت معدلات الفقر في ازدياد ليس لانعدام التمويل وقلة توفره، بل لانعدام استقرار مستويات أداء القطاعات الاقتصادية وقدرتها على الإنتاج. وأبان بوب أن من أكبر المؤشرات التي تدلل على ما ذهب إليه من تحليل، ارتفاع معدلات التضخم بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ البلاد، حتى أضحى ارتفاع معدلاته يهدد عرش الاقتصاد الكلي وانهياره كليةً، ومن باب أولى تأثيرها على التمويل الأصغر لهشاشة ركيزته وضعف بنيته، جراء قلة رأس المال المحدد له وتآكله يوما إثر آخر، بسبب التضخم وانهيار قيمة الجنيه السوداني، ليصبح مفهوم التمويل الأصغر غير مجدٍ لتمويل أي نشاط اقتصادي للقطاعات والشرائح الضعيفة بالمجتمع، لأجل ينتفي مفهومه بصورة قاطعة بنظر بوب، وتصبح الحاجة الأساسية إصلاح القطاع الاقتصادي والحد من التضخم وإعادة هيكلة الاقتصاد وتغيير إدارته والتوقف عن زيادة الرسوم والجبايات. وواصل بوب أن إقامة الندوات وإنشاء السمنارات عن التمويل الأصغر في التوقيت الحالي ليست ذات جدوى، لجهة اعتقاده الجازم أن الواجب يحتم البحث عن إجابة شافية عن مدى إمكانية القطاعات الاقتصادية وقدرتها على استيعاب الاستثمارات والاستمرار في نشاطها الاقتصادي، وأضاف بوب أن تجربة التمويل في ظل الوضع الراهن ليست مجدية، وذلك لأن العائد منها لا يغطي حجم الاستهلاك للحاصل على التمويل الأصغر، وأن التمويل الأصغر بصورته الحالية لا يشكل دعما للمواطنين، بل يحقق أرباحا للمصارف. وزاد قائلاً إن التمويل الأصغر مع علاته لم يصل لكل المستهدفين به. وطالب بوب بإيقاف تجربته تماما وتوجيه الأموال المخصصة له للنهوض بالاقتصاد الكلي، مع العمل على الحد من الرسوم والجبايات. أما الدكتور محمد الناير فيرى أنه لا غبار على تجربة التمويل الأصغر من حيث رسم السياسات وتخصيص الإدارات، حيث حدث تطور كبير في مجالهما، بيد أن نتائجهما لم تنعكس على أرض الواقع بالشكل المطلوب حتى الآن، جراء توجس المواطنين من الدخول في تجربة التمويل الأصغر، وصعوبة الإيفاء بالضمانات، وارتفاع هامش أرباح التمويل، وتوجيه أمواله إلى غير وجهتها من قبل الحاصلين على التمويل، مما يخرج المرابحة من دائرة الشرعية، هذا علاوة على ضعف المراقبة والمتابعة اللصيقة للمشاريع من قبل المصارف المانحة للتمويل، وتكاد تنقطع صلتها بالحاصل على التمويل بمجرد تسلميه المواد، بالإضافة لتهاون إدارات المصارف في دراسات الجدوى المقدمة لها، بجانب ضعف وقلة الانفتاح على الريف والوصول إلى كل الشرائح المستهدفة. ودعا الناير إلى تمتع التمويل الأصغر بمزايا تمكنه من الانطلاق من شاكلة تحمل الدولة جزءا من تكلفته بجانب طالب التمويل، وتخفيف الضمانات وقبول الضمان من طالب التمويل نفسه، بجانب المتابعة اللصيقة للمشروعات، والاتجاه للتمويل في جماعات، وقبول الضمانات التقليدية من قبل القيادات الأهلية لاسيما بالريف، والاهتمام بإعداد دراسات الجدوى والانفتاح على الريف.