خلال الفترة 4/5/2004م-3/8/2004م نشرت لى هذه الصحيفة الغراء- صحيفة النخبة المستنيرة - سلسلة مقالات تحت عنوان (حدودنا) وبفضل الله لاقت قبولاً وإستحساناً ، فأشار على عدد من الإخوة الإعلاميين والباحثين بجمعها في كتاب، والطلب نفسه قدمه آخرون للأخوين الأستاذين عادل الباز رئيس التحرير وحيدر المكاشفى مدير التحرير وقتها وكان أن خرج إلى النور كتيب «حدود السودان..الواقع الإجتماعى والسياسى والقانونى» الذى قدم له أستاذنا الجليل البروف عبد الله حمدنا الله. المقالات السابقة التى حواها الكتيب إهتمت بالأبعاد الثلاثة الواردة في عنوانه مع تركيز خاص على مايهدد أو يدعم الأمن القومى للبلاد في كل منها. وكنت أحسب أن إضاءات المقالات كافية للفت انتباه متخذ القرار لبعض الجوانب ولتحفيز الباحثين في المجال لبذل مزيد من الجهد، ولكن منذ ذلك الحين جرت سيول وفيضانات حطمت كل الجسور وأخرجت حدود ثلاثة جيران كلياً والجزء الأكبر من حدود جارين آخرين من خارطة البلاد، وأوجدت جاراً جديداً لم يكن له وجود. حدودنا الدولية مع الجار الجديد هى الأطول إمتداداً والأشد تعقيداً والأكثر ثراءً بشرياً وثقافياً ومادياً، ولهذا جاءت هذه السلسلة الجديدة. الأوضاع الديموغرافية والإجتماعية لحدودنا الجديدة تحدثنا عنها في الجزء الأول من هذا المقال وذكرنا أن أهم مايميزها عدم وجود قبائل مشتركة كما هو الحال في بقية قطاعات حدودنا الدولية، وأيضاً من المميزات التداخل الكبير بين المجموعات السكانية الشمالية والجنوبية على جانبى الحدود لعوامل تاريخية وإقتصادية. أما الوضع القانوني لحدودنا الدولية الجنوبية فقد حددته إتفاقيات نيفاشا والبروتوكولات المصاحبة لها. إستناداً إلى حدود 1/1/1956م وهذا التحديد جعل 80% منها واضحة ومتفق عليها ، وترك أربع مناطق معلقة لتحسم تبعيتها بالوثائق التى يملكها كل جانب ومنطقة خامسة «أبيى» لتحسم بالإستفتاء.. وأخيراً جاءت إتفاقيات أديس أبابا التى تركزت أهميتها في إزالة الإحتقانات والتوترات السياسية التى نتجت عن عدم حسم إتفاقية نيفاشا لكل القضايا ، ومعالجة ملف الترتيبات الأمنية لفك الإرتباط بين حكومة الجنوب وقطاع الشمال سياسياً وعسكرياً وضمان عدم دعم كل طرف لمتمردى الطرف الآخر ، وأيضاً - وهذا الأهم في تقديرنا - الإتفاق على جعل الحدود «مرنة» لضمان التطبيع الإجتماعى والتواصل الثقافى والتبادل التجارى. ولهذا سنركز حديثنا على وظائف الحدود الإقتصادية والدفاعية الأمنية والسياسية وهى جميعها وظائف تخدمها المرونة التى أشرنا إلى أهميتها وسيرتكز تحليلنا إستناداً إلى إتفاقيات أديس أبابا 2012م والتى نعتقد ونأمل أن تكون الأساس الذى ستبنى عليه علاقات الدولتين ومستقبل الشعبين. لنبدأ بالوظيفة السياسية.. تتحدد هذه الوظيفة بإعتبار أن الحدود السياسية لكل دولة هى الإطار أو الإمتداد الإقليمى لسيادتها ، حيث تحدد نطاق ممارستها للقوة والنفوذ وتفعيل قوانينها وسياساتها الوطنية على مواطنيها والقاطنين بها من الوافدين إليها، وهذا يعنى أن الدولة لا تستطيع ممارسة سيادتها على إقليمها بشكل كامل فى حالة وجود مناطق متنازع عليها أو حدود غير آمنة أو قابلة للإختراق. وبناءً عليه فإن المناطق الحدودية تعتبر من أكثر المناطق حساسية فى إقليم كل دولة ، وأكثرها جذباً لإهتمام سلطتها الحاكمة ، إذ على جانبى الحدود بين الدول تتعدد وتتنوع مصادر التوتر والتصادم أو مصادر التواصل والتعاون ، مما يجعلها على رأس محددات السياسة الخارجية لكل دولة خاصة مع دول جوارها الإقليمى . إتفاقيات التعاون الشامل فى أديس أبابا قطعت شوطاً كبيراً فى إزالة التوترات ودواعى الإختراقات فى حدودنا الدولية الجنوبية ومهدت الطريق بشكل قوى لعلاقات تواصل وتعاون مع دولة جنوب السودان . ولكن الإتفاقيات _للأسف_ لم تحسم مسألة أبيى والمناطق الأخرى المتنازع عليها: دبة الفخار وجبل المقينص وكاكا التجارية و14ميل وهى كلها مناطق معلوم تاريخ تبعياتها الإدارية والحراكات الإجتماعية والعرقية التى تعرض لها بعضها قبل وبعد 1/1/1956م وكان من الممكن أن يتم حسمها جميعاً لو صدقت النوايا وتوقفت التدخلات الخارجية . الآن بعد ذوبان كل الجليد فى أديس أبابا أصبحت الفرصة مواتية لحسم تبعية هذه المناطق في جولات التفاوض المقبلة ، إما بالإحتكام إلى الوثائق أو التنازل المتبادل أو التقسيم وقد يصبح الأمر اكثر يسراً وسلاسة عند تطبيق الإتفاقيات الأخرى والتى من شأنها أن تخلق فى مجموعها إعتماداً إقتصادياً متبادلاً بين الدولتين . أخشى ما أخشاه أن تقود العواطف المفاوضات المقبلة ويلجأ الطرفان إلى جعل منطقة 14ميل أو حتى أبيى منطقة تكامل أو تلاقى أو تفاعل أو تعاون أو غيرها من التاءات لأن ذلك من شأنه أن يؤدى إلى تداخل أو تضارب أو مشاركة فى السيادة مما يؤثر على كمال أداء الوظيفة السياسية للحدود. وبهذه المناسبة لم أرتاح كثيراً لما تمخضت عنه زيارة السيد الرئيس الأخيرة للقاهرة من إتفاق الطرفين السوداني والمصري على جعل مثلث حلايب منطقة تكامل بين البلدين الشقيقين. نعم إختلف نظام الحكم فى القاهرة فالنظام السابق كان معادياً والحالى صديق . النظام السابق رفض التحكيم الدولى وعمل على إيجاد واقع إجتماعى وإدارى جديد فى المثلث والنظام الحالى يقدر عمق الروابط وضرورة إقامة علاقات إستراتيجية بين البلدين، ولكن ليس من الحكمة جعل ذلك ذريعة للقفز فوق الواقع والحقائق للوصول إلى التكامل لأن علاقات البلدين كانت متوترة في الماضي القريب، وليس هناك مايضمن عدم تجدد التوتر في المستقبل...كان _ومازال_ الأوفق اللجوء إلى أحد خيارات ثلاثة ، أولها التحكيم الدولى وثانيها إستفتاء مواطنى المنطقة وثالثها تقسيم المثلث بحيث تكون بلدة حلايب وأبو رمادة وجبل أم الطيور وما حولها من الأرض جنوب المثلث سودانية ، وميناء شلاتين ومنجا وجبل نقروب وما حولها من الأرض شمال المثلث مصرية . ومن بعد ذلك يمكن أن تقام مشاريع تكاملية فى المثلث بأكمله. وبهذا يكون قد تم نزع فتيل الأزمة إلى الأبد. نواصل