بعد تصاعد حدة المواجهة بين حركة الإخوان المسلمين المصرية والسلطات السياسية من جانب ومن جانب آخر بينها وبين المجتمع بعد شيوع فكر الجماعات الإسلامية الاعتزالي وميلان الحركة نحو التسلف خرجت مجموعة من قياداتها منهم الشيخ محمد الغزالى رحمه الله والشيخ يوسف القرضاوي، والقاضي والمفكر طارق البشري، والمفكر وأستاذ القانون محمد سليم العوا، والمفكر والمحكم الدولي وأستاذ القانون الدستوري والوزير السابق أحمد كمال أبو المجد، والكاتب والصحفي فهمي هويدي، والمجموعة التي اصدرت صحيفة «المسلم المعاصر» وعلى رأسهم الدكتور جمال عطية، ظلوا كمجموعة واحدة متجانسة فكرياً ومتصلة بصلات شخصية مباشرة، ورغم استقلاليتها لم تتنازل هذه المجموعة عن الآيديويلوجية العامة للحركة الإسلامية، وإن كانت قد خرجت عن مؤسساتها التنظيمية، كما أنها لم تتنازل عن واجبها في الدعوة والتجديد والانتصار لقضايا المسلمين عامة والحركة الإسلامية على وجه الخصوص، وقد اختار ريموند بيكر أستاذ العلوم السياسية بكلية ترينيتى الأميركية أن يتكلم عن هؤلاء في كتابه حول ظاهرة سماها «إسلام بلا خوف». وأحيا خطاب الحركة الإسلامية سنن الإسلام التي اندرست، ومنها سنة الجهاد وتحكيم الشريعة الإسلامية وغيرها من السنن الاجتماعية. ووصل ما بين الصلاة والشعائر الإسلامية المسنونة وقيم الدين والعمل العام، بعد أن كان التدين مظهراً من مظاهر اعتزال الحياة، ومهرباً من ابتلاءاتها، وخرج الذكر الذي كان محصوراً في دور العبادة ووجدان العابدين ليصبح الحمد والتكبير والتهليل والتسبيح شعارات للحياة كلها، ومكنت الشباب والمرأة والمثقفين والمشتغلين في الحياة العامة من التدين من غير اعتزال للحياة العصرية. غير أن هناك عدة عوامل أدت بعد ذلك إلى ظهور اتجاهات جديدة ومتجددة للتدين غير النماذج التي قدمتها الحركة الإسلامية نذكر منها: تصاعد المواجهة السياسية بين الحركات الإسلامية والأنظمة الحاكمة والغرب ودعم الدول الغربية في مقابلتها للحركات الاسلامية المعاصرة وما يعرف بالاسلام السياسي لما تسميه بالأنظمة والجماعات الاسلامية المعتدلة في الجزيرة العربية والخليج، والتي كانت تحتضن الدعوات السلفية. وقدمت بعض الدوائر العربية الدعم للحركات السلفية وهي تواجه المد السوفيتي بالتعاون مع بعض الدوائر الغربية، كما قدمت لها الدعم مرة أخرى وهي تواجه تنامي مؤثرات انتصار الثورة الإيرانية والتيارات الشيعية. ويبدو أن ذلك كان أيضاً بدعم من بعض الدوائر الغربية التي ابدت انزعاجاً لتنامي الفكر السياسي الجهادي الاسلامي وما كانت تسميه بظاهرة «حزب الله»، مما أدى إلى تنامي التيارات السلفية، هذا بالإضافة إلى تنامى التيار السلفي في السودان وأفريقيا عامة لارتفاع اصوات الاقليات غير المسلمة في السودان وأفريقيا، والوعي والنشاط الكنسي والدور السياسي الذي تلعبه في السودان وحزام السافنا، وإحساس الأفارقة من أصول عربية في تلك المنطقة لا سيما المسلمين منهم بأنهم مستهدفون، كل ذلك في إطار الاستراتيجيات الغربية، مما أدي إلى ارتفاع حدة التوترات في تلك المناطق والمواجهات كتلك التي حدثت في نيجيريا ومالى ودارفور. كما استفادت الجماعات السلفية في السودان من اشتغال الحركة في عهد الإنقاذ بالعمل الإسلامي في مجالات الحياة العامة التي يصعب وصلها بنيات التدين، حيث قلة النصوص الموجهة من القرآن والسنة وكثرة القضايا الاجتهادية وتشعب نوايا التدين بين الآجل والعاجل والدنيا والآخرة، واستفادت من إنشغال عناصر الحركة الإسلامية الفعالة في النشاط السياسي والجهادي والتنفيذي، ومن تراكم الاخطاء في تجربة الإنقاذ والدعاية المعادية لعناصرها، والحديث المتكرر عن الفساد والانشقاق الذي خيب آمال كثير من الإسلاميين محلياً وعالمياً، والذي شوه الأنموذج الذي كانت تدعو إليه. وتأثرت الحركة الإسلامية السودانية كما الحركة الأم في مصر بالفكر السلفي الوارد من المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وذلك عندما هاجرت قياداتها بعد مطاردات نظام النميري لها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث وجدت الطريق ممهداً بالإخوان المصريين، فاستقبلهم الملك فيصل وتعاونوا مع المملكة في حربها على الناصرية والشيوعية التي دخلت إلى حديقة المملكة الخلفية في اليمن، وشاركوها في التصدي للغزو الشيوعي لأفغانستان من باب النصرة والمشاركة الدولية وانتهاز الفرصة لرفع قدرات الحركة القتالية للتصدي لعدوان الأنظمة الطاغوتية، وإن وقعت مشاركتهم في إطار الاستراتيجية الامريكية السعودية في المنطقة، إذ كانت الحركة تقدر كثيراً خطر الشيوعية على الإسلام «كان الشيوعيون السودانيون يدربون شبابهم في اليمن الجنوبى على القتال»، وقد تولى الإخوان تجنيد الشباب الإسلامي للجهاد في أفغانستان، وساعدوا المجاهدين في إدارة المعركة سياسياً وإعلامياً ودولياً، وتوثقت علاقاتهم بمجموعات المجاهدين الأفغان، وامتدت العلاقة إلى ما بعد اجتياح طالبان لأفغانستان، وآوت حكومة الإنقاذ من عرفوا بالعرب الأفغان بقيادة بن لادن بعد ذلك، وقد دفعتها إلى هذا الموقف ضرورات عملية وطموحات مشروعها الدولي والإقليمي، وسعيها للاستفادة من قدرات المجاهدين الأفغان القتالية، وتهريب الاسلحة وتحريك الاموال. وأفرزت تجربة الحركات الإسلامية اتجاهات اخرى جديدة للتدين لا سيما وسط الشباب، تميل الى التكيف مع الواقع والحياة العصرية ولا تكلف صاحبها عناء التغيير. وتهتم بالتدين الشخصي وتبتعد عن العمل السياسي والمواجهة مع السلطات السياسية القائمة، وتستغني عن الالتزام والعمل في اطار جماعات سياسية «آيديولوجيا ومؤسسة»، وينبري لقيادة هذا التيار الجديد دعاة جدد كامثال عمرو خالد وطارق السويدان والجفري وغيرهم. ويقدمون دعوتهم بأسلوب عصري، ويستخدمون التقنيات الحديثة في الاتصال، ويستهدفون المثقفين وابناء الطبقة الراقية ونجوم الفن والسينما والرياضة، ويقدمونهم نماذج في الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة، ويتمتعون بمهارات عالية في فن الخطابة والتأثير والاتصال الفردي المباشر عبر الوسائط الحديثة والحوار والرسائل المتبادلة وتقديم الاستشارات للمشاهدين، ويميلون الى التيسير والتصالح مع الحياة العصرية والأوضاع القائمة، وهو تيار اسلامي خارج بصورة ما على الحركة الإسلامية ومنقلب على منهجها ويستهدف قواعدها، ويكتفي فيه الشباب بالطمأنينة الفردية الذهنية والنفسية التي يجدونها. وأظهرت الثورات العربية تياراً إسلامياً جديداً وإن كان قد تربى في البيئة السياسية التي هيئتها الحركات الإسلامية، إلا أنه خارج على تنظيماتها السياسية ومنقلب على بعض مواقفها وعجزها عن تحقيق تطلعات الشعوب الإسلامية في التحرر الوطني والتنمية الاجتماعية والإقتصادية، وعينه على بعض التجارب الإسلامية التي فشلت في مرحلة الدولة، والتى أحدثت توتراً في علاقات المسلمين مع الغير، ولا يجد حرجاً في استخدام رموزها في ثورته «صلاة الجماعة في الميادين العامة الجمعة الشهادة التكبير والتهليل»، كما لا يخفي هذا التيار افتتانه بأنموذج الحرية والرفاهية الذي حققته الدول الغربية، وربما أفرزت ظروف الثورات والدعم العسكري والسياسي الذي قدمه الغرب للثوار وعودة معظم قيادات الإسلاميين من دول المهجر الأوروبي والأمريكي وتوليهم المناصب القيادية، تطوير علاقات غربية جديدة مع التيارات الإسلامية، وربما دفع ذلك الحكومات الغربية إلى قبول الرأي الذي يدعمه بعض المفكرين الغربيين الذي يدعو إلى إعطاء الإسلاميين فرصة ليحكموا، مما قد يدفعهم لكي يتنازلوا عن كثير من المثل التي تكسبهم التأييد الشعبي ويصبحوا أكثر عملية في التعامل مع الواقع الدولي والآخر، أو ينتهي بهم الأمر إلى الفشل. نواصل إن شاء الله.