تكالبت علينا الأمم ونزلت بنا المصائب تباعاً، ويبدو أنه حار بنا الدليل، واختلط علينا الأمر، ماذا دهانا؟ يريد العالم الأول «أمريكا وأوروبا وإسرائيل» أن يلتهمنا ويقلق مضاجعنا ويحاصرنا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وينتزع منا المبادأة.. ويضعنا في ركن قصي في خانة الدفاع مع قلة حيلتنا.. بالرغم من همتنا العالية.. انه عالم لا يعرف إلا القوة.. وحكم القوي على الضعيف.. ولا تستطيع المنظمة الأممية التي من أهدافها بسط العدل والسلام ومعاقبة المعتدين، إلا أن تكون أسداً علينا نحن.. ونعامة على أفعال واعتداءات العالم الأول علينا وعلى أمثالنا.. مع توفر رد جاهز للمحتجين أمثالنا: «لو ما عاجبكم أشربوا من البحر» مع انعدام أو محدودية الدعم أو المؤازرة من العرب أو الأفارقة أو الدول الإسلامية عدا سند اقتصادي متمثل في استخراج البترول بواسطة الصين. وامتثل السودان لصوت العقل وأقر ضرورة حل مشكلة السودان بالحوار بدلاً من البندقية وقدم التنازلات في سبيل السلام، ولكن من خلال اتفاقية بها كثير من الغموض والقنابل الموقوتة فقدنا الجنوب وسكانه، وأصبحت مشكلة أبيي عقبة كؤوداً وشوكة مؤرقة ونكاد نفقدها، ودارفور اصبحت جرحاً غائراً ينزف باستمرار، ودوي الرصاص كما لم يكن من قبل في النيل الازرق وجنوب كردفان ومازال.. وتجدد القتال بيننا والجنوب في هجليج وأبيي وغيرها، وفقدنا مورد البترول الذي بذل فيه الشمال جهداً كبيراً حيث ادى ذلك لزيادة الفقر وضيق المعيشة بجانب الغلاء الطاحن، أضف لذلك تهتك النسيج الاجتماعي وبروز القبلية والجهوية بصورة كبيرة، كذلك فإن تجربة الحكم الفيدرالي رغم مراميها النبيلة إلا أن التوسع فيها بدون موارد حقيقية جعلها ماعوناً يستنزف مقدرات السودان الشحيحة لترضية نخب سياسية أو حاملي سلاح أول مطالبهم الوظائف السياسية، فاصبحت الولايات «كحلة العزابة» كلما شق أحدهم عصا الطاعة.. إلا وجدنا له متكأ في الولاية مستشاراً أو وزيراً أو معتمداً، أو رضخنا لمطالب قبيلة وفتحنا محلية على حساب التنمية.. أما الأمن فحدث ولا حرج، فقد صرنا هدفاً «مثالياً» للعالم الثالث نُمطر بالصواريخ والقنابل «ساحل البحر الأحمر، مصنع الشفاء ومصنع اليرموك» ليلاً ونهاراً، علاوة على الجيوش الجرارة من القوات الأممية التي دخلت البلاد وفقاً لاتفاقية نيفاشا، التي وضح أنها من مهددات الأمن الوطني السوداني، فكل ما أصابنا منذ توقيعها عام 2005م هو من جرائمها.. وكل ذلك يحدث والجبهة الداخلية السودانية مفتتة وليست لها ثوابت وحد أدنى للاتفاق عليه، فالمعارضة والحكومة على النقيض من بعضهما، ولم يستطيعا أن يضعا ايديهما فوق أيدي بعض على الأقل لتنفيذ اتفاقية نيفاشا ومعالجة الآثار السالبة لها.. ومصر تحتل حلايب بقوة السلاح وترفض الجلوس لحل المشكلة أو الذهاب للتحكيم رغم تغيير الحكم بإسلاميين، حيث تعتقد الحكومة انهم اقرب اليها من حكم مبارك ولكن ظهر عكس ذلك.. ايضاً ظهور النهب المسلح بصورة أو أخرى في مناطق غرب السودان، وليس ببعيد انتقالها للوسط والشمال والغرب، وهو أمر يمثل تحدياً أمنياً ينعكس على الانتاج الزراعي والرعوي والتعدين الاهلي مصدر الرزق الجديد لكثير من قطاعات الشعب خاصة الشباب. وما سردته وكثيراً مما لم اسرده، هل نعتبره أحداثاً عادية وعابرة يمكننا علاجها من خلال الأجهزة المتوفرة؟ أم أن ذلك يمكن أن يعتبر «أزمة»؟ وبدءاً تعرف الأزمة بأنها «نقطة تحول وحالة متوترة للانتقال» أو «وضع أو فترة حرجة وخطرة، وهي حالة علمية تطورية يحدث فيها انفصام يعلن الانتقال الحتمي تقريباً إلى حالة أخرى»، وعموماً هنالك تعريفات كثيرة للأزمة تتفق جميعها في عناصر مشتركة تشكل ملامحها وهي: وجود خلل وتوتر في العلاقات. الحاجة لاتخاذ قرار. عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بالأحداث القادمة. نقطة تحول للأفضل أو الأسوأ. كذلك فإن الأزمة تحمل في طياتها تهديداً مباشراً للمنظمة، فإنها أيضاً تحمل بين طياتها فرصاً ثمينة لإعادة اكتشاف المنظمة لذاتها وإطلاق القدرات الإبداعية والابتكارية الكامنة فيها. إذن الأزمة تبعث وتتطلب التمعن وإعمال الفكر، وتقييم الذات لمواجهة الأحداث المتأزمة، والانتصار عليها، وعلى أقل تقدير الحد من خطورتها وآثارها السالبة، وعليه الأزمة تتطور لتشمل مناحي الحياة كلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فلا بد من الوصول إلى قرار تنتج عنه مواقف جديدة للحد منها أو تقليل خطورتها كأضعف الايمان. وحري بنا أن نقول إن التعامل مع الأزمات ليس مهمة سهلة، وليس مهمة فردية تقوم بها جهة واحدة، وإنما هي مهمة سياسية اقتصادية اجتماعية أمنية تبعاً لتأثيرها الملموس على أوجه الحياة المختلفة، فلذا التصدي لها مسؤولية اجتماعية متعددة الأبعاد. وعموماً للتعامل مع الأزمة فإن هنالك عدة مدارس ولكنها جميعها تتفق في بعض المراحل الآتية: التلطيف والاستعداد والتحضير. احتواء الضرر. الاعتراف بالأزمة. مجابهة الأزمة. إعادة التوازن واستعادة النشاط والاستجابة. والآن اعتقد أن حالتنا في السودان وفقاً للتعريف والعناصر المكونة للأزمة، فإننا غارقون في أزمة لا يعلم إلا الله كنهها، وأن هذه الازمة تهدد نظام الحكم وتماسك المجتمع ووحدة الدولة بل حالته الاقتصادية وأمنه، حيث أنها شملت مناحي الحياة الأخرى، وأنه بات من الضروري والحتمي احتواء الضرر والاعتراف الجهير بالأزمة ومجابهتها، وإعادة التوازن للتخفيف من حدة الخطر، إلى أن يمكننا الله من إزالتها كلية، وهذا ليس بمستحيل، رغم صعوبته إذا أخلصنا النية. وكلما وصلنا إلى أن حالنا هذا، حال أزمة، فإن الوسائل التقليدية المتوفرة للدولة لن تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحلها، لأنها ببساطة ستكون جزءاً من الأزمة، فلا بد من البحث عن وسائل أخرى تساعدها في الحل. وعليه اقترح أن يقوم عدد من الشخصيات الوطنية المشهود لها بالحيدة والحكمة وعدم الميل والهوى والخبرة والدراية والقبول لدى الحكومة والمعارضة، لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، يتطوعون من انفسهم، دون مقابل مالي، ويختاروا عدداً لا يتجاوز الأربعين من الأحزاب السياسية.. عدا المؤتمر الوطني. وعدد مثله من شخصيات عامة بذات مواصفات شخصياتهم من الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين والاكاديميين والعسكريين المحترفين ذوي الخبرة، ويترك للحكومة والمؤتمر الوطني أن يعينوا عشرة من الذين ليسوا على سدة الحكم على الأقل منذ 2005م، ويؤدوا القسم في الساحة الخضراء، أمام جمع من الشعب. ويكون واجب اللجنة المئوية لحل أزمة السودان، الدراسة المستفيضة المتأنية بكل شفافية لمشكلات السودان التي أدت للأزمة، وصفاً للمشكلات، ثم يقومون بتوضيح الأسباب المباشرة وغير المباشرة لتلك المشكلات، وأخيراً يقترحون الحلول المنطقية العملية لمعالجة الأزمة وفقاً لبرنامج زمني دقيق. وتكون المداولات سرية، ويرفع تقرير شامل لرئيس الجمهورية على ألا يملك الإعلام والمواطنون بعض الأسباب والمعالجات التي تحتاج للسرية والكتمان. وأتوقع أن تتعامل رئاسة الجمهورية مع التقرير بالجدية، وقطعاً ستجد فيه الكثير المفيد، وليكن لها هادياً، ولنجرب في السودان الوصفات المحلية بدلاً من الوصفات الأجنبية، وليكن ذلك بداية لنهاية الاستعانة بالأجانب والعواصم الأفريقية والعالمية. حاملين على اكتافنا أزماتنا وعائدين وأزماتنا على اكتافنا أيضاً.. لنعطي الحل السوداني والرأي السوداني فرصة كما أعطيناها للأجنبي.. وصدقوني لن نندم على الأقل، فقد تركنا الأزمة لأصحاب المصلحة الحقيقية، حيث أنه لن يكون الأجنبي، بأي حال من الأحوال، أحرص منا في الحفاظ على الأمن القومي السوداني.. والله من وراء القصد.