الراحل الأستاذ محمد توفيق كتب ذات يوم فى مطلع التسعينيات فى عموده الشهير «جمرات» هذا العنوان، ولا أدرى أى عنوان كان سيتخير لو امتد به العمر الى أيامنا هذى. ولم أجد أنسب من هذا العنوان لتقديم هذه الرسالة التى بعث بها الي كاتبها، وهو على ما أظن على أعتاب الكهولة.. تقول الرسالة: الابن الفاضل ترددت قبل كتابة هذه الرسالة إليك، فبمثلها تفيض وتمتلىء عشرات الصحف فى أيامنا هذه.. أيام المحاق والعدم وغيرها من المترادفات التى تعبر عن بؤس الحال.. نحن ياسيدى وبصراحة لا نأكل ... فقد وصل بنا ضيق الحال لدرجة أصبحت حتى «السخينة» صعبة المنال علينا، «السخينة» التى صدقت فى حقها إحدى عضوات المجلس الوطنى «لعلها السيدة سعاد الفاتح أو ربما السيدة الفاضلة عائشة الغبشاوى، فقد وهنت الذاكرة»، حين قالت إن سواد الشعب بات يعيش عليها. وكيف تتيسر لنا تلك «السخينة» وربع البصل سعره اليوم «25» جنيهاً .. والطماطم بلغ الكيلو منها «8» جنيهات.. ولتر زيت الطعام ب «15» جنيهاً .. واستبدال أنبوبة الغاز «20» جنيهاً .. وثماني أرغفة ناحلات بجنيهين.. وأحسبها بربك أنت يا سيدى، وحتماً ستجد أن أسرة تتكون من خمسة أفراد مثل الأسرة التى أعولها ستحتاج الى مليون جنيه «بالقديم» لتفطر «سخينة» وتتغدى «سخينة» وتتعشى «سخينة» بواقع 12 جنيهاً لكل وجبة. وفوق هذا على هذه الأسرة ألا تمرض وألا تشرب الشاى الأحمر، ولا يذهب أولادها للمدارس ولا تستغل الحافلات والركشات، ولا تدفع فواتير الكهرباء أو المياه.. هذا هو يا سيدى مهر وكلفة هذه «السخينة» البائسة. ربما تأففت سيدى من هذه المفردات العامية ك «السخينة» وغيرها، وربما تأفف جيرانك الدكاترة و«البروفات» فى صفحة الرأى ب «الصحافة» الغراء من هذا الأمر، فهم يسودون الصفحة كل يوم بعنوانين من شاكلة: «الإقتصاد وحتمية المحفظة القومية.. صفوية البنية التنظيمية للحركة الإسلامية.. جدلية الطريق الثالث للخروج من الأزمة.. التوافق الوطنى وسبل الوصول إليه.. تداعيات الربيع العربى.. مصر أنموذجاً.. وغيرها». ومع احترامى وتقديرى لكل هذه الأقلام وأصحابها وكل تلك الاجتهادات.. ولكنهم مع الأسف تتعامى أعينهم وأسماعهم عن الحقيقة المفزعة.. حقيقة أن معظم أبناء الشعب السودانى ما عاد فى مقدورهم أن يأكلوا، فالجوعى كما كتبت أنت ذات يوم لا يرون سوى ظلام الحسرات ولا يسمعون سوى صوت أمعائهم الخاوية. يا أخى الكريم.. أنا معلم متقاعد بالمعاش قرابة عشرين عاماً، ومعاشى بالكاد يقترب من الثلاثمائة جنيه، فقل لى بربك كيف أعيش وأعول أسرة مكونة من ثلاث فتيات ورابعهن ابن «طفش» الى أوربا ولا أعلم له عنواناً بعد أن ترك زوجة مطلقة وحفيداً لم يتجاوز عمره خمس سنوات؟ هل أسرق أم أتسول؟ بصراحة ما عاد فى بدنى عظم يقوى على التسول أو السرقة، فأنا مريض وأحتاج الى دواء شهرى كانت كلفته الشهرية قبل ثلاثة أشهر سبعين جنيهاً، واليوم هو ب 110 جنيهات، وقد تركت معاودة الطبيب لأنى لا أملك هذا الترف.. لكن هل يتركنى المرض؟! وهذه الرسالة بعد أن كتبتها لك وذيلتها باسمى وعنوانى قرأتها إحدى بناتى فراحت هى وأخواتها يلطمن الخدود ويقلن: «بعد ما حيطان البيت ده ساترانا يا أبوى وساترة جوعنا وبهدلتنا.. عاوز كمان تفضحنا فى الجرايد؟»..فقلت لهن أنا لا أفضحكن ولكنى أفضح من تسبب فى جوعنا جميعاً. ربما معهن حق.. لهذا ورفقاً بهن أكتب اسمى بكنية الابن الذى «طفش».. وختاماً أو تدرى ما بت أتمناه وأشتهيه فى دنيتى هذه؟ إنه الموت.. الموت ولا شىء سواه. أبو أحمد معلم بالمعاش أم درمان