تابعت بشغف شديد لقاءً شيقاً في قناة الخرطوم، وبمجرد نهايته قلت في نفسي ليته كان يبث من قناة أم درمان. وتخيلت حسين خوجلي يتابعه وهو يتحسر على مادة أم درمانية بهذه الروعة تستأثر بها الخرطوم دون أم درمان، وكأني به يعاتب أولاده وبناته في القناة على هذا الصيد السمين الذي أفلت من بين أيديهم الماهرة. وكان اللقاء مع رجل ظل يردد طول الوقت وبفخر بشدة بأنه «ترزي»، ذلك الرجل هو «المهداوي» صاحب الاسم المعروف والمحطة المعروفة في الحارة العاشرة بالثورة. قال الرجل أنه بدأ حياته «بمكنة خياطة» واحدة، لكنه قال إنه أحبَّ عمله وتعلق به تعلقاً شديداً، فكان يعتني ب «مكنته» الواحدة تلك ويدللها نظافة وتشحيماً وترميماً، حتى تكاثرت إلى «مكنات» بلغت المائة، ثم إلى مصنع، ثم بعد المصنع مشاركة في مصنع آخر. ويبدو الرجل سعيداً بما أنجزه سعادةً تجعلك تعوذه بها من عين الحاسدين والقاصدين، وليس ذلك فقط، بل إن زوجته التي كانت معه في اللقاء ولم تغادرها بعض أمارات وسامة «أيام زمان» تقول في صدق وبراءة كيف أنها التقت بزوجها لما جاءت إلى محله هي وصديقة لها مع أخيها الصغير على «وش العيد» بغرض أن يفصل لأخيها الصغير بدلة إفريقية لأنها كانت موضة ذلك الزمن الجميل، ليمضي بها يوم العيد، فلم يقبل أي مكان خياطة استلام القماش بسبب دنو العيد، لأن الجميع يستعد لإنهاء ما بيده من أعمال لأنه يريد أن يسافر لقضاء العيد مع أهله. وحتى محل المهداوي أبى أن يقبل بدلة الولد الصغير بنفس العذر حتى جاء المهداوي بنفسه في «بولمان» المحل الذي عليه عنوانه ونزل منه، فلما سمع القصة ولسبب ما وافق على قبول البدلة المتأخرة.. بل وسألها وصديقتها عن مكان إقامتهما ليخصم لهما سعر التذكرة، وأشارت المدام «مبتسمة» إلى أنه كان يريد أن يعرف مكان سكنهما... فقالت إنها لم تعطه العنوان بالضبط، لأن تلك كانت هي محاذير الأهل في ذلك الوقت، وذكرت موقعاً جغرافياً قريباً مكنها من الحصول على خصم مناسب يساوي سعر التذكرة، وهو خمسة وعشرون قرشاً!! قالت المدام «ضاحكة» هذه المرة إنها قد تحققت من غرض المهداوي، لأنها لما دفعت المبلغ مقدماً «بعد الخصم» قالت للمهداوي إن أخاها صاحب البدلة هو الذي سيأتي ليتسلم بدلته... وقالت إن أخاها لما جاء بعد أيام واستلم البدلة سأله المهداوي عن مكان إقامتهم، وجاء معه وخطبها وتزوجها.. وتلك هي أم درمان التي تصنع واقعها بالشكل الخاص جداً الذي قلَّ أن تشاركها فيه «بقعة» من بقاع الأرض!! واستمر اللقاء التلفزيوني الشيق، وذكر المهداوي أنه رزق الأولاد والبنات، وأن منهم الزراعي والمدرس والطبيب والمهندس، وأن ابنه المهندس هو المسؤول الآن عن مصنع ملابس المهداوي، وأن هذا الشاب ورث عن أبيه حب «مكنة الخياطة». ومن هنا اندفع الرجل يطلب من الشباب ألا ينغلقوا في التخصص الأكاديمي ويصروا على ألا يعملوا في الحياة إلا به، بل حثَّ الشباب مع الدخول إلى الجامعات في التخصصات المختلفة على أن يهتموا بتعلم «حرفة» تنفعهم في الحياة إذا تعذَّر عليهم الحصول على وظيفة في خدمة الحكومة. وحكى المهداوي أنه كان يقود عربته «الميرسيدس» ويضع فيها إحدى «مكنات» الخياطة، فحاذاه سائق عربة آخر وقال له متهكماً: «هذه المكنة ليس مكانها هذا الميرسيدس الفاخر»، فقال المهداوي إنه زاد سرعته حتى لحق بذلك السائق وقال له: «إنني لولا مكنة الخياطة هذه لما ركبت هذه الميرسيدس»!! ولفت نظري أيضاً أن ابنة الرجل التي كانت موجودة في هذا اللقاء تبدو سعيدة جداً بوالدها، وتحدثت عنه بإكبار ومحبة كبيرة. ليست الأسرة الصغيرة وحدها هي التي احتفت بهذا الصانع الماهر المثابر المخلص، ولكن المجتمع أيضاً احتفى به لأنه سمى إحدى محطات الحارة العاشرة بالثورة باسمه، ومعلوم أن كثيراً من الناس يسعون لمثل هذا الاعتراف الجماهيري ولا يجدونه حتى لو بذلوا في سبيله المال والدعاية والجهد الجهيد. قلت في نفسي ليت أن هذا البرنامج سمعته أعداد كبيرة من الشباب، لأن النجاح يغري بمزيدٍ من النجاح.