تزعم ثلة من أهل العلم أن فلسفة التاريخ ترتكز على أربع قضايا هي نسبية القيم التاريخية، العلية لأحداث التاريخ، التنبؤ بالحدث التاريخي والتقدم والتخلف لأحداث التاريخ. وإذا ما أخذنا بالمعيارين الآخرين في الحسبان تقييماً للوضع الآني للحضارة الغربية التي تقودها الولاياتالمتحدة، فإن أحدث التقارير التي أصدرتها بعض أجهزة الإعلام الأمريكية تؤمئ إلى أن الإتجاهات الجيوسياسية خلال العقدين القادمين تخلص إلى أن الولاياتالمتحدة ستفقد مكانتها الدولية باعتبارها العملاق الإقتصادي والعسكري الأول في العالم بحلول عام 2030م بسبب ما تعانيه إقتصادياتها وحليفاتها الغربيات من عجز في الموازنة مترافقة مع ديون طاحنة. وأشارت صحيفة الواشنطون بوست - ذات الميول اليمينية المتطرفة - الأسبوع الماضي إلى أن الثروة والسلطة ظلت تنساب من الغرب إلى الشرق خلال العقود الماضية. وكانت الرابح الصين التي بدأ نجمها يبزغ على حساب الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول المجموعة الأروبية. وكما هو معلوم، فإن الولاياتالمتحدة تبوأت مكانتها العالمية بعد عزلة مجيدة في السياسة الدولية (Splendid Isolation ( لم تخرج منها إلا بعد دخولها الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) وترجيحها لميزان الحرب لصالح الحلفاء (بريطانيا، فرنسا وروسيا) على دول المحور (ألمانيا، إيطاليا وتركيا). بيد أنها انفردت بالقطبية العالمية بعد إنهيار المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي (1989م) بسبب إمتلاكها للنسبة الأعلى للقوة والثروة والمعرفة. ولا ريب أن هذه المصادر هي المحدد الرئيسي للقوة السياسية والإقتصادية. وعندما تستخدم هذه المصادر مقترنة ببعضها بذكاء - كما نوه لذلك المفكر ألن توفلر في كتابه المعنّون " تحول القوة - Power Shift " -، فبإمكاننا الحصول على القوة القصوى. وتعرّف القوة بأنها البعد الفعلي لجميع العلاقات الإنسانية. غير أن القوة في الثقافات الغربية تعبر في الحقيقة عن الكمية. ولكن هذه نظرة حولاء تتجاهل أهم العوامل وهي جودة أو فاعلية القوة حيث أن من يفهم فاعلية القوة سوف يكسب الإستراتيجية في المستقبل. أما الثروة فهي وسيلة أكثر مرونة من القوة العسكرية حيث أنها توفر قوة ذات فعالية متوسطة. بيد أن المعرفة أو المعلومات هي القوة ذات الفعالية القصوى. ويوضح السجل التاريخي أن الولاياتالمتحدة قد أطلقت ما عرف بخطة مارشال بعد أن وضعت الحرب العظمى الثانية أوزارها (1945م). وبموجب هذه الخطة ضخت على مدى أربع سنوات (13) بليون دولار في أروبا - بما فيها (5.1) بليون دولار لألمانياالغربية لإعادة بناء قدرات الإنتاج، ودعم العملة وتحريك التجارة من جديد. أما اليابان فقد تسلمت وفق برامج أخرى ، (9.1) بليون دولار على شكل معونات غذائية ومعدات صناعية ووسائل مواصلات.. وقد وصف ونستون تشيرشل رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العظمى، خطة مارشال بأنها "أجود عمل في التاريخ". وقد ساعدت هذه الخطة مارشال على توفير الأسواق للبضائع الأمريكية، كما وأنها منعت ألمانيا من العودة للنازية. وأهم من كل ذلك أنقذت المساعدات الأمريكية أروبا الغربيةواليابان من الوقوع في قبضة الإشتراكية السوفيتية وأعادت تلك البلدان للعمل. لذلك وصفها العديدون بأنها من أذكى الاستثمارات في التاريخ. ومنذ منتصف الخمسينيات ارتفعت ثروة الولاياتالمتحدة ارتفاعاً كبيراً. فإنتاجها الذي كان (7.1) تريليون دولار في عام 1952م (دولارات معدلة( ارتفع حتى بلغ (11) تريليون دولار في عام 2004م ووصل إلى (15) تريليون دولار عام 2010م. وبالرغم من أن الأرقام الخاصة بالإسهامات في مجال التقنيات والعمليات والتنظيم هي أرقام تقريبية، لكن الولاياتالمتحدة لم تكن لتستطيع الاحتفاظ بقدرتها على المنافسة في العالم عسكرياً وإقتصادياً لو بقيت مجرد قوة صناعية فقط. فمن خلال دور المعرفة في الأعمال التجارية والإقتصادية تؤكد الولاياتالمتحدة دور الثقافة وتلفت الإنتباه إلى أن بعض الثقافات تحث على الإنتاج أكثر من غيرها. وعلى النقيض، ينعت الكثيرون الولاياتالمتحدة بأنها تمثل "الإمبريالية الثقافية" أو العولمة. وهي - أي العولمة - تعني قولبة الشعوب والدول الأخرى قيماً ونظماً ومناهج تفكير فيما يعرف ب "النزعة المركزية الغربية - Centralism Western" وتعتبر الفترة من (1994-2000م) عهد كلينتون" هي أزهى عصر إقتصادي في تاريخ الولاياتالمتحدة الحديث حيث إستطاع تقليص الديون من (190) مليار دولار (عهد جورج بوش الأب( إلى فائض تجاري سنة 1998م. وأدى ذلك إلى تقليص نسبة الفقر والعطالة وإنتعاش البورصة الأمريكية وزيادة الأجور. غير أن أزمة الرهن العقاري (2007م( أطلت برأسها وتطورت إلى أزمة إقتصادية عالمية وليست محلية فحسب وشهدت إنهيار العديد من المؤسسات التجارية الصناعية الأمريكية والعالمية. ولاتزال إدارة الرئيس باراك أوباما في ولايته الثانية تعمل على التعافي من آثار هذه الأزمة. ومما زاد الوضع المالي سوءاً تداعيات الكوارث الطبيعية التي إجتاحت العديد من الولايات وإستنزفت بلايين الدولارات من الخزانة الأمريكية. وشهد عام 2004م تفوق الصين الإقتصادي على اليابان فإحتلت المركز الثالث عالمياً في حركة التجارة الدولية. وارتفعت إلى المركز الثاني بعد الولاياتالمتحدة منذ العام (2010م( مما دفع العديدين إلى طرح السؤال: هل بوسع هذا العملاق الآسيوي أن يصبح قوة عالمية بمجئ عام 2030م. وللإجابة عن هذا السؤال إرتأى الكاتبان "ألفين وهايدي توفلر" في مؤلفهما الموسوم ب "الثروة وإقتصاد المعرفة - 2010م" أن لابد من تفهم العوامل التي أدت إلى نهضة الصين الحديثة. فإستطاعت الصين خلال العقود الأربعة الماضية أن تقطع شوطاً في الإنتقال إلى إقتصاد السوق. كما وأن عودة هونج كونج وما كاو إلى حظيرة السيادة الصينية لعب دوراً بارزاً في دعم إقتصادها. ويلحظ أن الصين قد إكتسبت مهارة نالت الإعجاب في إستعمال السرعة كسلاح في المنافسة في التجارة الدولية. ففي الوقت الذي إحتاجت فيه اليابان وكوريا الجنوبية ودول المجموعة الأروبية إلى أربع أو خمس سنوات لتطوير مواقعها في السوق العالمي، فإن الصين كانت تسيطر على السوق بسرعة فائقة تقل كثيراً عن منافسيها. وفضلاً عن ذلك تمكنت الصين من تطوير واحدة من أكثر البنى التحتية تقدماً في العالم في مجال الإتصالات. ومن المتوقع إمتلاكها لأكثر بنية تحتية متقدمة في العالم في هذا المجال في المستقبل المنظور. ولم تغفل الصين الجانب العسكري. فقد بدأت برامج بعيدة المدى لتطوير قواتها الجوية والبحرية لحماية خطوط الملاحة البحرية الرئيسية من جنوب الصين إلى الشرق الأوسط الغني بالنفط وبالتالي تعمل على توسيع نفوذها جغرافياً وتغيير علاقاتها الإقتصادية والعسكرية بهذه الأسس القوية، علاوة على إمتلاكها للتقنية العالية في التقانة والإدارة. ومما سبق إيراده ، لا مراء أن السباق ما يزال محتدماً بين الولاياتالمتحدة والصين حول إمتلاك الثروة وإقتصاد المعرفة. ويرى بعض الباحثين أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع الحفاظ على دورها القيادي في ثورة الثروة في عالم اليوم ولا التمسك بقدرتها العسكرية الضاربة دون تطوير نظامها التعليمي الشبيه بنظم المصانع وعدم الإكتفاء بإصلاحه. وثمة تساؤل ذي صلة: هل بمقدور الولاياتالمتحدة قيادة عالم أحادي في الألفية الثالثة مستغلة ظاهرة العولمة التي تمثل النزعة الإمبريالية الغربية بغية الهيمنة على عالم الجنوب الغني بثرواته الطبيعية والذي يمثل سوقاً راجحاً لمنتجاتها التقنية والمعلوماتية؟. وفي تقديري، أن الإجابة الناجعة عن هذا السؤال ليست حاضرة الآن برغم بعض التوقعات الغربية المستندة إلى دراسات إستراتيجية والتي تشي بأفول نجم اليانكي وإرتقاء المارد الصيني وتسنمه لقيادة الإقتصاد العالمي خلال العقدين القادمين. فثمة تغيرات جيوسياسية وإقتصادية تمور بها الساحة الدولية آنئذٍ قد تُفضي إلى تحولات غير منظورة في مسار القطبية الدولية.وفي لعبة الغد الجديدة لايزال هناك خبراء وسياسيون يدعون إلى توازن عالمي جديد. فهل مايسمى بعالم متعدد الأقطاب ومقسم إلى تحالفات متنافسة أو تكتلات إقليمية أفضل حالاً من عالم آحادي القطب تقوده دولة قومية(الولاياتالمتحدة أو الصين( أومنطقة بعينها ( أمريكا أو أروبا أو شرق آسيا( أو قوى غير دول القوميات(المنظمات غير الحكومية والديانات واللاعبين الآخرين(؟ . وكيفما يكون الحال، فالأيام حُبلى بكل ما هو جديد ومثير إجابة عن هذا التساؤل .... والله المستعان. * عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة بحري.