تظل الرؤية الاستراتيجية لمولانا السيد محمد عثمان الميرغني في استيعاب حقائق التاريخ وطبيعة الأشياء ضمن سياق الواقع الموضوعي لمتطلبات المرحلة عاملاً مؤثراً في تجنُّب الكثير من المزالق التي يمكن أن تنحدر بالبلاد إلى هوة سحيقة وفقاً لقراءاته المختلفة، ومن هذه الزاوية جاءت تصريحاته الأخيرة في حواره مع «الشرق الأوسط» بتاريخ 13يناير2013م، لتؤكد أنَّ «التغيير قادمٌ وهو حتمي والوعي به ضرورة والتحوط والاستعداد له أمرٌ حيوي، ليقود بالضرورة إلى مرحلة أفضل تكون الأكثر استقراراً واطمئناناً وأمناً وتألقاً وتكاتفاً بين الناس». وينبع هذا الإحساس الوطني الصادق تجاه قضايا المرحلة الآنية في السودان من خلال رمزيته الوطنية التي يجسدها الواقع ويرفدها إرث ضخم من المواقف الوطنية التي تضيق عن الحصر، ففي أحد أقواله المأثورة في معرض حديثه عن مسؤولياته الوطنية وما ينتظره من مهام، يقول السيد محمد عثمان الميرغني: «تقع على عاتقنا مسؤولية وطنية تاريخية، ولن نفرط مهما تعاظمت التحديات والصعوبات. وواجبنا أن نحافظ على سيادة الوطن واستقراره، لينعم أهله بالحياة الآمنة المستحقة. وسنظل نتمسك بالسلام العادل وبرايات السيادة والديمقراطية والتعددية والحريات العامة والوفاق الوطني الشامل، وسنمضي في الطريق ولن تسقط هذه الرايات أبداً بإذن الله». فما تعانيه البلاد من أزمات سياسية واقتصادية بعد الانفصال كان إفرازاً طبيعياً لما أفضى إليه القصور البائن في هندسة الاتفاقيات وغياب النظرة المستقبلية للنتائج المحتملة في القرارات المفصلية، ومرد ذلك إلى أن الاتفاقية جاءت في ظروف بالغة الحساسية للحزب الحاكم في سعيه الدؤوب للخروج من عنق الزجاجة، فكانت نيفاشا العتبة الأولى في سلم الاندماج في منظومة المجتمع الدولي لتقنين شرعيتها الدستورية من خلال انتخابات عامة، لكنس آثار العشرية الأولى التي حاصرت النظام في مربع العزلة الدولية على أيام الدبلوماسية الرسالية التي أدخلت الشعب السوداني في عش الدبابير. ومن هذه الوجهة جاء الدستور تعبيراً حقيقياً عن اتفاقية نيفاشا بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني اللذين وقعا على الاتفاقية في غياب الآخرين، مما أحدث خللاً بائناً من حيث الشكل في دستور 2005م، الذي سمي بالدستور الانتقالي، وكان الأمل أن ينتهي أجله بالانفصال، لأن هناك نصفاً انفصل. مما يستوجب التوافق القومي على دستور دائم يبلور مفهوم الأمة، لا يمكن أن نتحدث عن مفهوم الأمة دون التوافق حول جدلية الهوية والسلطة والثروة وتوزيعها والاتفاق حول مكانة الدين من الدولة، ليرى أي فرد ينتمي إلى تراب هذا الوطن نفسه من خلال نصوص الدستور القادم. ولكن حقائق الواقع تحدُّ بصورة عملية من هذا التوافق، نتيجة لما تمخضت عنه نيفاشا من تعقيدات في مناطق النزاع على وجه التحديد، وبأي حال من الأحوال ونحن نتحدث عن الجهود السلمية لدفع العملية السياسية، لا بدَّ من التطرق لما ظل يتداول بين الفينة والأخرى عن مبادرة السيد جعفر الصادق الميرغني مساعد رئيس الجمهورية للمؤتمر الجامع وتشكيله للجنة حكماء السودان بين السودان ودولة الجنوب، والتي كانت بمثابة مدخل لحل المشكلات المرتبطة بالصراع بين الدولتين في مناطق النزاع، بل وامتدت بملء يدها للنخب المختلفة من مثقفين وقادة رأي وكتَّاب وغيرهم تناشدهم طرح الرؤى، وتعمل من أجل صهرها في مشروع موحد، وبالرغم مما يقوله القائمون عليها، من أنها تجد القبول، إلا أن كثيرين يرون أن الدولة لم تستفد منها الاستفادة الكاملة، فقد ظلت المفاوضات الثنائية هي سيدة الموقف. وقد تنبه مولانا السيد محمد عثمان الميرغني إلى هذه الحقيقة باكراً، وقبل التوقيع النهائي على اتفاقية نيفاشا أن يخاطب طرفي الاتفاقية بأنه لم يأتِ إلى أديس أبابا بحثاً عن مقعدٍ ثالث للتجمع الوطني الديمقراطي ولا للحزب الاتحادي الديمقراطي ولا لشخصه، ولا مانع لديه في التوصل إلى اتفاق لوقف الاحتراب بين أبناء الوطن، ولكن يجب مشاركة الشعب السوداني ممثلاً في أهل الحلِّ والعقد والقيادات السياسية والكيانات الدينية والاجتماعية، لأنَّ حاضر ومستقبل البلاد يجب أن يكون توافقاً بين جماهير الشعب السوداني على اختلاف توجهاتهم الفكرية والعقدية والعرقية. ولا يمكن تحقيق أي انجاز وطني إلا من خلال إجماع وطني مع توفر أرضية صالحة للتفاهم والثقة المتبادلة. ولا نلقي هذا الحديث على عواهنه، وإنَّما التجربة العملية في إنجاز اتفاقية «الميرغني قرنق» تقف شاهدة على ما نحن بصدده، والذي كان يمكن أن يمثَّل جداراً عازلاً للتدويل الممنهج لما تلاها من اتفاقيات وعهود ومواثيق، ولكن حظوظ النفس والكسب الحزبي أطلَّ بوجهه على خريطة الوطن عنواناً بارزاً يزين صفحات المشهد السياسي في الصراع المهموم بين الفرقاء. ففي كتابه «السودان وأهل السودان أسرار السياسة وخفايا المجتمع»، في طبعته الأولى في عام2003م، مطبعة الشروق المصرية، ذكر الصحافي المصري يوسف الشريف: «وهكذا استقبلت الخرطوم السيد محمد عثمان الميرغني في مظاهرات شعبية تنمُّ عن ارتياح الشعب السوداني لاتفاقية السلام، فها قد آن الأوان لادخار الأرواح واستثمار تكلفة الجهد الحربي الذي كان يستنزف الخزانة العامة يومياً في إعادة البناء والتنمية، ولكن على ما يبدو أن الدكتور حسن الترابي أوغر صدر الصادق المهدي من النجاح السياسي الذي تحقق للحزب الاتحادي وتصاعد شعبيته عندما انفرد بتوقيع اتفاقية السلام نيابة عن الحكومة الائتلافية والأمة السودانية!». ولنتجاوز الموقف الشعبي ونتوجه صوب الموقف الرسمي من الاتفاقية بحسب إفادات الدكتور منصور خالد في كتابه «النخبة السودانية وإدمان الفشل» في جزئه الثاني، لينقل لنا غيضاً من فيض المحاولات التي جرت لإجهاض الاتفاقية في مهدها فيقول: «شيء واحد استغربه الناس يوم ذلك الحدث العظيم، إغفال أجهزة الإعلام المرئي لذلك الحدث المهم، في الوقت الذي كان فيه هو الخبر الأول في محطة الإذاعة البريطانية وإذاعة صوت أمريكا وراديو مونت كارلو وإذاعات أديس أبابا ونيروبي وكمبالا. وحسِبَ الناس أن وراء الأكمة ما وراءها، وما وراءها هو موقف رئيس الوزراء المحيِّر من الاتفاق. وخرج رئيس الوزراء على الناس بحديث مفاده بأنه يقبل الاتفاق مبدئياً إلا أنه يريد أن يفاوض بنفسه في جزئياته، وهنا استبدت بالناس الظنون فأخذوا يبحثون عن تفسيرات لهذا الموقف المربِك». ولكن يظل التاريخ حاضراً بمواقفه ووقائعه ليقدم لنا الأستاذ يوسف الشريف في كتابه المذكور آنفاً تفسيراً لهذا الموقف المربك: «وهنا أروي بأمانة ما حدث عشية عقد جلسة استثنائية للجمعية التأسيسية حول اتفاقية السلام وإجازتها، حينما اجتمعت الهيئة البرلمانية لحزب الأمة مساءً في فناء منزل الصادق المهدي بأم درمان، حيث وجَّه النواب للتصويت غداً على إجازة الاتفاقية، وفجأة وصلت سيارة الدكتور حسن الترابي وصحبه الصادق إلى مكتبه بالدور الثاني، واستغرق اجتماعهما ثلاثة أرباع الساعة، وبعدها غادر الدكتور الترابي المنزل في سيارته، ومرت ربع ساعة حين هبط الصادق من مكتبه، ووقف على سلم منزله. وخاطب أعضاء الهيئة البرلمانية بصوت متهدج النبرات قائلاً بلهجة آمرة: غداً تصوتون على رفض الاتفاقية.. لقد استخرت الله وهداني إلى أن وراء الاتفاقية مؤامرة مصرية أمريكية.. ودون أن يمنح نواب حزب الأمة فرصة إبداء الرأي أو الاستفسار عن الأسباب وراء تغيير موقفه من الاتفاقية، تقدَّم نحو سيارته التي انطلقت به إلى مكان مجهول بينما النواب يضربون كفاً بكفٍ في حيرة ودهشة وإحباط شديد!». ماذا يفعل النواب في حيرتهم وإحباطهم وهم يدركون أن الإمام الصادق المهدي لا يلتفت إلا لنصائح صاحبه!، على الرغم من أن الاتفاقية كانت فرصة تاريخية قدمها مولانا الميرغني على طبق من ذهب للسيد رئيس الوزراء باعتباره رأس الجهاز التنفيذي بحسب تراتبية النظام البرلماني في الحكومات الديمقراطية، وبرزت شخصيات أخرى متنفذة أسهمت بدور فاعل في ما يليها، فأكملوا المهمة بدقة يحسدون عليها، كالأستاذ عبد الله محمد أحمد وزير الثقافة والإعلام الذي تمَّت مكافأته بالمنصب ذاته في الحكومة التي تلت الديمقراطية الثالثة!! وذهب نواب الحزبين في اليوم التالي إلى الجمعية التأسيسية، ليس لخدمة الشعب وتحقيق الآمال الملقاة على عاتقهم لتدعيم خطوات السلام وقطع الطريق أمام المغامرات التي بدأت تلوح في الأفق، وإنَّما كان الأمر يتعلق بإيجاد مسوغ قانوني لإجهاض الاتفاقية من خلال التصويت المباشر والنتيجة محسومة بداية.. وهكذا تُنسج المؤامرات في مطابخ السياسة السودانية، ويظل الوطن نهباً للطموحات الفردية والتطلعات الشخصية، ونظل مجرد متفرجين على مسرحية ليست لها نهاية، «والساقية لسه مدوره»!!