الحديث عن الديمقراطية والانتخابات في أي بلد هو بالضرورة حديث عن طبيعة الدولة، والحديث عن الدولة هو في جوهره ايضا حديث عن انقسام المجتمع السياسي الى حاكم ومحكوم!! الى فئة مسيطرة على مراكز اتخاذ القرار وفئة يقع عليها واجب الالتزام بهذا القرار.. انتهت الانتخابات عندنا وسنحاول بموضوعية وعلمية وتوازن قراءة بعض ما أفرزته نتائجها وممارساتها من واقع ومن ردود افعال.. تتفق الغالبية المراقبة ان الممارسة نفسها كانت معقدة وطويلة وكان التخوف كبيرا من ان تكون نسبة الاوراق التالفة كبيرة، ولكن الأمور سارت طبيعية ويبدو ان الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) الذي اكتسح النتائج اكتساحا كبيرا وذلك بسبب تسجيله لاعداد كبيرة من الناخبين منذ مرحلة التسجيل، يبدو انه درب عضويته على مسألة التصويت من البداية وذلك طبعا بسبب امكاناته الضخمة وعضويته المنظمة والمنضبطة الى حد كبير وذلك امر طبيعي لحزب حاكم يملك السلطة ويتغلغل في مفاصل المجتمع، ويعرف الناس أن الانجازات الضخمة والهائلة التي تمت في عهد حكم هذا الحزب هي انجازات تعود الى جماعة هذا الحزب الحاكمة ومن يوالونهم من بقية الاحزاب. الأمر الثاني الذي وفق حزب المؤتمر الوطني في اكتساح النتائج ونيل غالبية اصوات المقترعين هو الكاريزما التي تميزت بها شخصية الرجل المفصلي في هذه الانتخابات وهو الرئيس عمر حسن أحمد البشير!! ويجب من البداية أن ننبه الكثيرين من الذين فازوا في حزب المؤتمر الوطني كباراً وصغاراً انهم لم يفوزوا لإعجاب الناس بهم ومعرفتهم لهم؛ وانما فازوا لأنهم وقعوا في ظل الرئيس البشير الذي أكاد أجزم انه يمثل اكثر من نصف هذا الحزب!! ولدرجة انني اشفقت على أناس زرتهم في قرى في ولايات بعيدة لا يرضون في البشير خدشة!! ولا يصدقون أنه يوجد أحد يمكن أن يمس البشير بحرف!! البشير اكتسب هذه المكانة المرموقة من خصائص عدة أهمها ما مارسه من شجاعة و(رجالة) عقب قرار الجنائية الدولية، فهذا الرجل الذي ولد في قرية حوش بانقا التي تبعد 051 كلم شمال الخرطوم في سنة 4491م جعل من المحكمة الدولية اضحوكة عند الشعب السوداني!! والشعب السوداني أصلاً هو شعب مجبول على حب الشجاعة والتحدي، وقد مارس البشير هذه الشجاعة وهذا التحدي على المحكمة الجنائية الدولية الى درجة ان الأطفال اصبحوا يبحثون عن صورة أوكامبو في الصحف وفي المجلات ليرسموا عليه صليباً ويملأوا عينيه بالحبر الأسود!! لقد زادت شعبية البشير عند السودانيين اضعافاً مضاعفة بعد مهزلة المحكمة الجنائية الدولية التي تركت القتلة من قادة اسرائيل وأمريكا يسرحون ويمرحون وطاردت البشير وهي لا تملك عليه أدلة مثل الأدلة المعروفة كالشمس على قتلة العالم الآخرين. الأمر الآخر الذي مكّن للبشير ولحزب المؤتمر الوطني الحاكم هو ما خاضته احزاب المعارضة من مهازل ومن مواقف خائبة ومترددة كشفت امر هذه الاحزاب لعامة الشعب وهو أمر معروف سلفاً للناس، ولم تكتشف هذه الاحزاب انها كانت معروضة امام الناس وتحت سمعهم وبصرهم بأجهزة الاعلام المسموعة والمرئية!! ولم تكن هذه الاحزاب بقدر المعركة والتي هي معركة معروفة ومعلومة ومدارة بواسطة قوانين منشورة على الناس كافة، وهي قوانين ساهمت هذه الاحزاب في وضعها خاصة قانون الاحزاب وقانون الانتخابات، وساهمت في تكوين الاجهزة التي نشأت بواسطة مواد هذه الانتخابات خصوصاً المفوضية القومية للانتخابات التي تم اختيارها على رؤوس الأشهاد وبموافقة الجميع!!. نعود لأحزاب المعارضة التي ننعى عليها ترددها وعدم منهجيتها وعدم تنظيم اجهزتها وكل ذلك كشف للناس انها جاءت الى الإنتخابات بغير استعداد وبغير عدة وعتاد!! وكانت أغرب التصرفات المترددة وغير المرتبة تصدر من حزب عتيد ومعروف للناس قائده دخل البرلمان وعمره لم يتجاوز 03 عاما ألا وهو حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي!! هذا الحزب الذي كان الناس ينتظرون منه أداءً مميزاً ومرموقاً يتناسب وخبرته وتاريخه كان يحدث في اكثر الاحيان ضجيجا وجعجعة بغير طحن بأصوات نساء ورجال يبدأون بالتهديد وبالاشتراطات الحادة والقوية التي تنتهي الى لا شيء!! ويمارسون اللعب السياسي بالألفاظ وبالمواقف فيقولون ان جل شروطهم قد تمت الاستجابة لها الا شرط واحد هو شرط تأجيل الانتخابات!! وكنا جميعاً نحسب أن اجنحة حزب الأمة المشتتة قد جاء أوان التئامها واجتماعها من جيد فلا نجد الا مزيدا من التفكك الذي أفضى الى لا شيء!! ان على حزب الأمة القومي الجديد أن يعود الى الساحة من جديد بعد دراسة التجربة لأن السنوات الأربع ستمضي سريعاً.. ونحن الآن لسنا في موقف لدراسة حال الاحزاب من هذه الانتخابات ولكن لأن حزب الأمة القومي الذي يتزعمه السيد الصادق المهدي كان الأكثر ظهوراً من بين أحزاب المعارضة في وسائل الإعلام الداخلية والخارجية. المفوضية القومية للانتخابات تحملت العبء الأكبرمن الأخطاء ومن الانتقادات!! وكلما كانت العملية الانتخابية تتوغل الى الداخل كلما كان المراقب الموضوعي يتحسس ان هذه العملية الانتخابية أكبر بكثير من ناحية فنية وعملية من هذه المفوضية!! ليس ذلك لعدم كفاءة من هم فيها ولكن لأن العملية أعقد بكثير وأكبر بكثير من مفوضية ليس لها تجارب وهي ذاتها ربما كانت تدرك ان المسألة بهذا الهول وبهذه الجسامة!! ولذلك آمل أن تجد المفوضية القومية للانتخابات من يشكرها ويقدر جهدها.. والمواطن العادي يعرف جيداً أن أي حديث عن تحيز المفوضية وعدم حيادها هو حديث من ضرب الخيال!! لقد كان العبء ثقيلاً على المفوضية لدرجة أنها هي نفسها في تقديري لم تكن تعلم ان هذا العبء بهذه الجسامة، ولكن العملية الانتخابية كانت تدخل في كل يوم في شأن جديد!! والأحزاب كانت تدفع بالأمور في كل يوم الى خطبٍ جلل!!. أعتقد أن الأحزاب والمرشحين المستقلين الذين أعلنوا انسحابهم من العملية الانتخابية في فترات معينة هؤلاء لم يدرسوا القانون جيداً وهذه مشكلة منهجية ومستديمة عندنا فنحن أصلاً قوم لا نحب كلمة قانون ولا نحب القوانين ويرى معظمنا أنه فوق القانون وأنه ليس له سبب مع القانون ولا يوجد ما يجمعه به!! والسبب في ذلك ليس التفلت او حب الفوضى وانما التعالي المعروف عندنا كسودانيين لدرجة أننا ما عدنا نعرف أي قبيلة أعز وأكرم من الأخرى!!!. وبدلاً من مواقف الانسحاب غير المدروسة كان الأجدى والأجدر بكل حزب او مرشح أن يكلف اجهزته القانونية بدراسة حالة الانسحاب القانونية ومتى تكون؛ وذلك حتى لا تقع حالة الانسحاب تحت طائلة موقف المفوضية القانوني الذي أعلن بوضوح أن الانسحاب في الوقت الذي لا يحدده القانون لا يعتد به!!. كذلك كان من الأجدى أن تحدد الجهة المنسحبة موقف حالة انسحابها، هل هو موقف احتجاجي أم موقف قانوني مدروس لأخطاء توجب الانسحاب؟!!. الانتخابات انتهت عملياً نعم، ولكن الحديث عنها وعن افرازاتها من نتائج وأرقام ومواقف لن ينتهي الآن.. ولكن هناك حديثا مهما للمنتصرين والمنهزمين لابد منه الآن.. إن المنتصرين وعلى رأسهم المؤتمر الوطني ومن والاه عليهم أن يعلموا أن الله قد ولاهم لعدة سنوات قادمات على الوطن كافة وعلى المنتصرين والمنهزمين.. والتواضع مهم في هذه الحالات وهو تواضع يجب ان يتشبه أهله بتواضع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم دخول مكة!! ان هناك ولاة يتصايحون منذ الآن انهم سيفعلون وسيفعلون!! ان هؤلاء عليهم أن يدركوا أن الذي خارج السلطة ليس كمن هو داخلها، والتريث والتأدب والانضباط مطلوب!! ان تولي أمر الناس شأن عظيم والفشل قريب وسنرى تولي أمر الناس في مقال آخر قريب. والذين انهزموا عليهم أن يعلموا أن الهزيمة ليست آخر المطاف، وأمر الله في الكون أن المهزوم يمكن أن يكون في يوم قريب منتصراً وما ذلك على الله ببعيد.. والهم يجب أن يكون عند الجميع هو ان يتمكن كل من يظن ان عنده ما ينفع به البلاد والعباد من أن يقدم ما عنده عندما يرتضيه الناس ويقدمونه في سلم وتحضر.. وليكن همنا الآن أن نحافظ على بلادنا وعلى توحدها وأمنها وسلامها لأن الذين يريدون أن يحكمون عندما تضيع منهم البلاد لن يجدوا ما يحكمونه!! وبلادنا لازالت في حاجة لأن تتوحد أرضاً وشعباً وقيادة وذلك أمر آخر يقودنا الى شأن الدولة ومقومات وجودها وأين نحن الآن؟!!. إن العالم يمور!! ولغة المصالح تتحكم في كل شيء الآن، وذلك يسير جنباً الى جنب مع ما اعترى الناس من نسيانٍ لأمر الغيب وابتعادٍ عن شأن الحياة الآخرة وأن لكل أجلٍ كتاب.. ومن هذه المنطلقات نعود.. وإلى لقاء.. [email protected]