كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(رعشات الجنوب) رائعة سحرية للمبدع أمير تاج السر (1)

عندما تقرأ عملاً روائيًا للروائي الكبير أمير تاج السر، يسكنك النص ويحتل بشخوصه وأحداثه فضاءاتك ودواخلك وعقلك بشكل لاتملك منه فكاكاً.تجد نفسك هائماً خلف عذابات الشخوص، وراكضاً ولاهثاً معهم في دروب الحياة بكل مشاعرك وأحاسيسك ، يكف الأمر عن كونه عالماً متخيلاً ، ينسرب في مسامات الروح وتعيشه كما تعيش حياتك شهيقاً وزفيراً وحزناً وسروراً، توتراً وراحة بال، بحثاً عن إجابات عن أسئلة لاتنتهي أبداً،تحتاج زمناً طويلاً لتأخذ أنفاسك وتخرج من عالم أمير الذي دخلته طائعاً مختاراً، ولكن خروجك منه يبدو مستحيلاً، وإن حدث الخروج فثمة شئ منك يبقى هناك ولايعود أبداً.لهذا السبب أحتاج الأمر مني ستة أشهر كاملة لتكون فاصلاً بين قراءتي لرائعة أمير (مهر الصياح)، وقراءتي لروايته الساحرة (رعشات الجنوب). ظلت الرواية أمامي وأنا أأجل قراءتها في كل مرة خوفا من طغيان عالم مهر الصياح عليها،وخوفاً على حلاوةعالم مهر الصياح من عالم (رعشات الجنوب ) المجهولة لدي وقتها، لكن تجربتي في عالم أمير تاج السر كانت تقول إنها رائعة أخرى بطعم مختلف وعبقرية باهرة. ولم يخب ظني حين ولجت عالمها .كنت ألهث خلف الحروف من صفحة إلى أخرى يومي كله، بدأت القراءة مساء أمس الخميس فشدتني ولم أتوقف إلا بعد ان التهمت ثلث الرواية خلال ساعة كاملة، ثم واصلت القراءة عصر اليوم الجمعة بلا توقف حتي فرغت من الرواية بأكملها عند التاسعة مساء تقريباً. الرواية صادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع / الطبعة الأولى ،2010 وتقع الرواية في مائتين وخمس عشرة صفحة من الحجم المتوسط. وتعتبر الرواية بكل المقاييس إضافة ثرة ومتميزة للرواية السودانية والعربية والعالمية، وتعتبر من الأعمال المتميزة للكاتب، وتعكس مابلغه من نضج فني وتمكن من فن الرواية وأدواته.ويمكن القول إن تجربة أمير تاج السر الإبداعية قد دخلت مراحل متقدمة من الأصالة والبصمة الخاصة والنضج، جديرة بالتوقف عندها كثيراً من قبل النقاد والمهتمين.
الرواية عند أمير تاج السر عمل ساحر يبتغي دوماً تخليص الحكاية من كل ما خامرها وإعادتها إلى أصلها، وهو كونها حكاية في المقام الأول، حكاية قبل أن تكون مغامرة لغوية أو تهويماً شعرياً غامضاً كما هو حالها عند بعض المعاصرين، أو خواطر مبعثرة مبهرة للكاتب لاينتظمها رابط سوى ذات الكاتب عند البعض الآخرمنهم، حتى أمست عند بعضهم زهورًا جميلة الشكل، لكنها بلا رائحة ولاعلاقة لها بالرواية كجنس أدبي سوى المسمى. خلافاً لذلك، فإن الرواية عند أميرتاج السر حكايات تتناسل إلى ما لانهاية بخفة وإبهار وسلاسة عذبة ، لكل كلمة وحرف مكانه مثل الشخوص في الرواية، الشخوص واضحة المعالم شكلاً خارجياً وبيئة محيطة وعالماً داخلياً ثرياً بهواجسه وظنونه وأحلامه، وخيبات أمله وطموحه المدمر ونيرانه الساكنة والمشتعلة، وتبدو الشخوص دائماً واقعة تحت قهر مركب من العالم المحيط، نلامسه في صراع الأقدار الذي يعصف بحياة الجميع كما تفتك عواصف هوجاء بزورق صغير في عرض البحر.الرواية عند أمير هي حكايات الناس العاديين الذين يعيشون أبطالاً ويموتون أبطالاً، لكنهم لايعلمون وكذلك الآخرون لايعلمون ببطولاتهم،يأتيهم الروائي المبدع حاملاً جهاز الكشف عن المعادن البشرية النفيسة، والنماذج الإنسانية العظيمة، فيخرجهم من العتمة إلى الضوء، ومن زوايا النسيان إلى حيث الأضواء الكاشفة. في رعشات الجنوب يغوص أميرتاج السر عميقاً في تربة الجنوب السوداني في حقبة زمنية ماضية، ممتدة بين العهد الاستعماري الأخير في السودان التي عرفت بفترة الحكم الثنائي، والفترة التي اعقبت الاستقلال حتى منتصف السبعينيات، وهي فترة شهدت حكماً ديمقراطياً قصير العمر، انتهى بانقلاب عبود العسكري، ثم جاءت فترة ديمقراطية ثانية قصيرة انتهت بانقلاب النميري .ولم يأت اختيار هذه الفترة اعتباطاً، بل كان اختياراً مقصوداً للإطار الزمني للرواية، وهو إطار التزم به الكاتب التزاماً صارماً في بنية الرواية وتداعيات أحداثها التي أريد لها هذا الإطار الزماني دون غيره.وهذا وجه من وجوه الصرامة الفنية عند الكاتب الكبير.ولهذا السبب فإن الباحث في الرواية عن أية ظاهرة اجتماعية أو أحداث حدثت في الجنوب في حقبة الثمانينيات وماتلاها سيصاب بخيبة أمل كبيرة يجد تفسيرها في هذا الإطار الزمني المرسوم سلفاً للأحداث.
مباشرة هي الحكاية عند تاج السر:
الرواية عند أميرتاج السر تبدأ من أول حرف وكلمة في سرد نفسها مباشرة دون حذلقة، ودون موسيقى صوتية أو مشاهد افتتاحية، تجد نفسك مباشرة في قلب الأحداث وقد بت جزءًا منها ومتورطاً فيها. هذا المدخل الحميم الذي يكشف الرواية، خير دليل على هذه الملكة الفريدة للكاتب:
(جميع من في بلدة (مداري)، الكبيرة نسبياً، والمزدحمة بالسكان، وما جاورها من القرى والأرياف، والجبال والأودية والخيران الضحلة، يعرفون (رابح مديني)، يسمونه المعلم رابح، يألفون أطواره الغريبة، ووجهه الموشوم بجرح قديم، اكتسبه من عراك في شبابه، ويتسوقون من متجره الواسع الذي أنشأه منذ سنوات طويلة، في وسط السوق الكبير، سماه لوازم، ويشتمل على شتى أنواع البضائع، من حبيبات الفلفل والهبهان، والعدس والفاصوليا، إلى الأسلحة المتطورة، والخمور المعتقة التي يجلبها من كينيا، وأوغندا المجاورة، يسوق الأسلحة سرًا لأفراد حركات التمرد ضد الحكومة المركزية، المستترة في الغابات المحيطة بتلك المنطقة، والخمور، لعمال الإغاثة الأوروبيين، وبعض أهل البلدة الميسورين الذين يهوون الغرابة، ويسعون إلى مزاج مختلف بخمر بعيدة عن تلك التي تصنع محليًا. كان(رابح مديني) أول من جلب إلى البلدة ببغاوات ملونة تتحدث بلهجات قبائل الجنوب كلها، ولهجات أخرى عصية على الفهم، باعها بأسعار خيالية، أول من شتم موظفي هيئة الضرائب، الذين يأتون من (جوبا)، عاصمة الإقليم الجنوبي، مرتين في العام، يزلزلون السوق، ويطرحون الأسئلة حتى على البهائم التي ترعى، وذكَّر رهبان الإرساليات الأوروبيين المتخفين في وجوه طيبة، وأزياء براقة، في أكثر من مرة، وبرغم بعده الشديد عن الورع، بأنهم مجرد قطط ضالة. وفي الحادثة التي جرت منذ عدة سنوات، واشتهرت في المنطقة بحادثة فارون، أو حادثة فرعون، بلهجة المحليين، وضُبط فيها أحد أولئك الإرساليين، وكان اسمه فارون، عاريًا، يستدرج طفلاً صغيرًا إلى مخدعه، بقطعة حلوى ملونة، كانت لرابح فلسفته الخاصة، قال في صوت واضح خالٍ من أية نبرة انفعال:
(- مجرد قط ضال.. نعم قط ضال.) رعشات الجنوب ص9
هذا المدخل الخالي من الفذلكة والتهويم الشعري واستعراض عضلات اللغة، هو لوحة متكاملة لعالم حي نهض من مكان ما في ذاكرة ومخيلة أمير الإبداعية، وسار أمام الأعين نابضاً بالحياة والضجيج والدلالات، حياة بأكملهما بكل تفاصيلها الجغرافية والإنسانية ارتسمت أمامنا، ووجدنا أنفسنا في قلبها في تلك البقعة من جنوب السودان المسماة مداري، وهو أسم خيالي طبعاً. في تلك الفترة الزمنية البعيدة نرى الكاميرا تتركز على أحد أبطال الرواية وهو بطل غير عادي بالرغم من أنه إنسان عادي، (رابح مديني) المنتمي إثنياً الي قبيلة المسيرية، وهي قبيلة عربية كبيرة موطنها الأصلي جنوب كردفان في السودان، حرفتها الأساسية الرعي، ولكن رابح مديني أمتهن التجارة ابتغاء الربح، ولعل ذلك يفسر اسمه الذي يتطابق مع مهنته في الحياة والهدف منها.تظهر ملامح الشخصية في هذا المدخل جلية واضحة المعالم، الاسم له مدلوله الثقافي والإنساني ، والوجه الموشوم بجرح قديم له دلالته على ماض قاس وكفاح مرير للوصول إلى الواقع الراهن ، فرابح لم ينهض من العدم، ولم يولد وعلى فمه ملعقة من الذهب ، بل كافح كفاحاً مريراً حتى بلغ النجاح، وأنشا متجر اللوازم الكبير في سوق مداري، والذي جعل منه مركزاً للتجارة المشروعة وغير المشروعة، وتشمل حتى الاتجار في الأسلحة والخمور التي يجلبها من الدول المجاورة، وهكذا صنع مديني من اسمه أسطورة محلية كاملة الدسم، ولكي تكتمل الأسطورة، كان لرابح مديني رغم كل سوءاته الظاهرة نزعة وطنية تحررية، تجلت في وصفه موظفي الإرساليات الاستعمارية بأنهم محض قطط ضالة، وتعزز ذلك الوصف حين برز سلوك غير أخلاقي من أحدهم حين تحرش جنسياً بطفل.هكذا من الصفحة الأولى وفي كلمات قليلة مباشرة، يقدم أمير تاج السر شخصيته الرئيسة التي سترافقنا على امتداد الرواية، ويقدم ملمحاً أساسياً عن موضوع الرواية الرئيس، وهو موضوع صراع الإنسان من أجل موقع في الحياة وموقف منها، وهو الصراع الذي انتظم الرواية من الافتتاحية حتى الختام. كل الشخصيات كانت في حالة صراع دائم مع الأقدار ومع الآخرين من أجل موقع ما،وموقف من الحياة، تعددت صور ذلك الصراع ومواقع الشخصيات ومواقفها فيه، لكنه ظل السمة الرئيسة للرواية، وبهذا المدخل الذكي حدد أمير تاج السر موضوع الرواية، فالرواية لاتتحدث عن جنوب جغرافي محنط في الذاكرة، ولاتتحدث عن جنوب إثني أو ديني، الرواية اختارت الإنسان موضوعاً لرعشات الجنوب ،والإنسان في الجنوب مثله مثل الإنسان في كل مكان صراعه في الحياة ليس صراع الجغرافيا والتاريخ والجهات، بل هو صراع اجتماعي في المقام الأول والأخير. صراع الإنسان في الحياة ، فوجود رابح مديني في الجنوب الجغرافي تأكيد على حقائق التاريخ التي تقول إن السودان ظل وطناً لكل السودانيين، وان الجنوب ظل وطناً لكل السودانيين مثله مثل أية بقعة سودانية أخرىي، وقد كان التعايش السلمي بين الشمال والجنوب قائماً وموجوداً، وكانت علاقة قبيلتي المسيرية والدينكا رمزاً وعنواناً لذلك التعايش ، لذلك كان وجود رابح مديني في الرواية وجوداً طبيعياً يجسد ذلك التعايش الذي كان ولازال أقوى من إرادة السياسيين والأجانب الذين ينظرون للمسألة من زوايا جغرافية وإثنية وعرقية ودينية بحتة، وربما مصالح سياسية واقتصادية.
لكن أمير لايقدم (رابح مديني) كملاك هبط من السماء، ولايقدمه في الوقت نفسه كشيطان مريد ، بل يقدم عينة بشرية تتصرف تحت ضغط ظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة، فرضت عليها فرضاً، فرابح مديني الذي يصف المبشرين المزيفين بالقطط الضالة، ويرفض مسلكاً غير أخلاقي لأحدهم، هو نفسه لايتورع عن جلب رجل مرتزق إلى المدينة ليعرض خدماته القبيحة علي أهلها، خاصة المتمردين بطريقة فجة ووقحة يصفها أمير تاج السر على لسان راويه العليم:
( لا يستطيع أحد أن ينسى ذلك اليوم الذي جاء فيه برجل ذي ملامح لاتينية أمريكية، في نحو الخمسين، قال إن اسمه سوليفان القديس، اقتنصه من الحدود اليوغندية كما يبدو، وعرضه للبيع في مزاد مفتوح أمام محله، تحت سمع وبصر الجميع، بمن فيهم رجال الشرطة المحليون، وأفراد كتيبة الجيش الحكومي، الذين اكتفوا بالفرجة ولم يحركوا ساكناً، بوصفه خبيرًا في صناعة الألغام، وقنابل المولتوف الحارقة، وصاحب سيرة دموية حافلة، ابتدأت في كوبا وانتهت في أرض فلسطين المحتلة. ذلك اليوم تسابق قادة المتمردين الذين سمعوا بالخبر من عملائهم المدسوسين في البلدة، وخرجوا من مخابئهم دون حذر، في المزايدة على سوليفان، رفعوا سعره في هياج، وأرهقوه باللمس والتقليب وتحسس الأنامل، حتى اقتناه أحد القادة، وجره بسرعة إلى عربة جيب صغيرة، انطلقت بهما إلى مخبئه في إحدى الغابات المجاورة.)ص 10
هذا المشهد الساخر الذي يصور فيه أمير تاج السر ذكاءً مميتاً لإنسان لايتورع عن الاتجار في كل شئ حتى الموت، هو مشهد مختار بعناية ليصور جانباً من حياة الناس في ذلك الزمان وتلك البقعة. وحتي تكتمل الصورة، يصور أمير رد فعل رابح مديني حين أكمل صفقته الناجحة ووهب المتمردين أداة قتل مقابل المال
(كان رابح يدس نقود التمرد الخضراء في جيبه، يغني بابتهاج أغنية محلية، ويمزق ورقة خاصة بمحاذير الاتجار بالبشر، صادرة عن الأمم المتحدة، قدمها له الأب فونو، راعي الكنيسة الأنجليكية بالبلدة، ويلقيها بعيدًا،)ص 11
رابح يمارس هنا ازدواجية منتشرة بكثرة في عالم البشر، ازدواجية الملاك والشيطان، والقول الجميل والفعل القبيح داخل النفس البشرية الواحدة،فهو يدين المبشر الفاسد بلسانه ويفعل جرماً أشد هولاً مما فعله المبشر الفاسد،فهو يتاجر بالبشر حين يبيع مرتزقاً قاتلاً إلى المتمردين، ويقبض الثمن وهو يعلم أن خبرات المرتزق الدموية ستحصد أبرياءً لاحصر لهم، ولاذنب جنوه على أحد، وتعميه نقود المتمردين الخضراء عن مبادئ نبيلة نقلها إليه مبشر صالح، هو الأب فونو. ولايتورع رابح عن التغني وهو يقبض ثمن الموت المجاني للأبرياء الذين تحصدهم الحرب الغبية التي يشعلها تجار السلاح والفتن.
لمزيد من إبراز التناقض في شخصية رابح مديني، يبرز أمير على مسرح الرواية شخصية شاب من أصل عربي مولود بالمنطقة، له ميول جهادية متطرفة يسمى (فتاح ) يدخل رابح في صراعات متعددة معه تصل حد الصراع بالسلاح الأبيض، وتنتهي بالصلح ، ثم يتجدد الصراع وينتهي بنجاح رابح في إيداع الفتى وجماعته المتطرفة السجن بمدينة جوبا.رابح مديني هنا لم يكن يدافع عن أصوله العرقية أو الدينية فهي منسجمة مع الشاب فتاح، لكنه يدافع عن مصالحه التجارية والاقتصادية المرتبطة بتجارة الخمور وكافة أشكال الممنوعات التي هددتها الجماعة المتطرفة. يكشف أمير ذلك بهذا الوصف المباشر( ظهرت جماعة فتاح بوضوح في أماكن عدة، في السوق والأحياء السكنية، وحتى الغابات التي تحيط بالبلدة، وتسكنها الضواري، ويستتر داخلها المتمردون على السلطة المركزية، كانوا يحملون مكبراً للصوت، ينادون بالعفة، ونقاء الضمير، والجهاد الحق ضد مفسدي البلدة، واشتبكوا مع الكثيرين ممن لم يعجبهم ذلك النداء، وكان يومًا مشهودًا، سماه الدكتور إيزايا، الطبيب الوحيد في مستشفى مداري، يوم الكسور، نسبة لعدد المصابين الذين ضج بهم مستشفاه،غير المؤهل لمثل تلك الحوادث. كان فتاح قد تحدث إلى رابح مديني بالذات، مرارًا من قبل، نبهه إلى تجارته الحدودية العاصية، ونزواته المتكررة التي يعرفها كل فرد، ولهاثه المحموم من أجل الدنيا، وشاهدهما مرتادو السوق مرات عديدة، يتعاركان، فتاح يشد رابح من ثيابه، ورابح يشهر في وجهه مدية لها بريق شمس ساطعة،) رعشات الجنوب ص 11
هنا يكشف أمير عمداً موقفاً وموقعاً اجتماعيا لكل من رابح وفتاح. ويلقي بذلك الضوء على كامل الصراع الاجتماعي بأرض السودان. رابح بدأ من الحضيض حيث كان عامل تنظيف للدواب، ولكنه نهض من الرماد وأصبح صاحب تجارة واسعة منبعها تجارة حدود تجمع بين المشروع وغير المشروع في سلة واحدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.