تتجه أنظار وقلوب السودانيين جميعاً والدارفوريين علي وجه الخصوص هذه الايام نحو الدوحة في انتظار ما يثمر عنه مؤتمر المانحين بعد ما يقارب العامين من توقيع وثيقة الدوحة بين الحكومة السودانية ومجموعة العدالة والمساواة برئاسة الدكتور التجاني سيسي محمد اتيم، وكما هو متعارف عليه وحسب اعراف وتقاليد المجتمع الدولي بعد كل اتفاق سلام تكوين ما يعرف ب «الجام» وهي بعثة تقييم ما بعد الحرب وما حل من دمار، وقيام نفير دولي من اجل اعادة الاعمار. وبالنظر الى تجارب «الجام» في كثير من الحالات المشابهة فإنها لا تتعدى مجرد التزامات اما م حضور كثيف فيه كثير من «الشو» وقليل من الالتزام، فهذه التعهدات يواجهها كثير من التعقيدات وفي أحسن الاحوال تعقيدات وصول الاموال الى المستفيدين الحقيقيين وفي الوقت المناسب، فمثلاً في الحالة السودانية لم تكن تجربة اتفاقية نيفاشا ناجحة، فقد ربطت كثير من الدول اصحاب المساهمات الكبيرة التزامها بجملة مطلوبات لم يكن بالسهولة تلبيتها كاملة من قبل الاطراف، فذهب مؤتمر اوسلو هباءً منثوراً. اما بالنسبة لدارفور فإن للمجتمع الدولي دور كبير في كل مراحل الازمة التي بلغت عامها العاشر قبل ايام، فقبل عشرة اعوام من اليوم أطلت الازمة برأسها عندما ابدى عدد من ابناء دارفور قلقهم مما يدور في ولاياتهم من انفراط عقد الامن وضعف هيبة الدولة وتدني الخدمات وتوقف مشروعات التنمية الموجودة علي قلتها، فتداعت هذه العوامل واجتمعت مع اخريات واختارت لنفسها عنواناً ورفعت لها شعارات معلنة عن ازمة دارفور. عشر سنوات توقفت فيها عجلة الحياة وتحولت دارفور الى حالة اشبه بالفوضى واقرب الي الامكواك والكيوس والفوضى العارمة والقوي يأكل والضعيف مأكول، وعاش الناس بالكلاش واضطرب الامر وجربنا المجرب، وتعلم الناس الحلاقة في روؤس الايتام كما يقول المثل. وبعد كل هذا وبالرغم من كل شيء وبعد كل شيء حدث ما حدث من كل شيء سيئ، ولكن الجميل اليوم هو ما يحدث في قطر بأن يجتمع الناس ليبحثوا عن استقطاب دعم دولي من اجل دارفور لتعود الحياة إلى سيرتها الاولى، وقطر الدولة المضيفة تستحق الشكر والتقدير الكبير من السودانيين والسودانيين الدارفوريين على المسعى وحث الآخرين لتقديم الدعم لتنمية دارفور في ظروف صعب فيها الحصول على تمويل الفصل الاول للدولة ناهيك عن التنمية، بفعل ما يدور من استنزاف جاري نتيجة استمرار الحرب مع دولة الجنوب وحليفاتها من المجموعات المسلحة. وينعقد مؤتمر المانحين بالرغم من ان الامور على الارض في دارفور في بعض اجزائها تميل نحو الاضطراب متمثلة في جيوب ترسل رسائل تقول نحن هنا، وليس صحيحاً ربط قيام التنمية بالسلام التام، ولكن الصحيح قيام مشروعات رغم كل الظروف حتي تكون دافعاً لايقاف الحربو فالى متى ينتظر الناس في الاماكن الآمنة حتي يتم تأمين الاماكن الاخرى؟ فلتقم التنمية في الاماكن الآمنة كما حدث في تجربة ولاية جنوب دارفور اثناء ولاية الحاج عطا المنان «التنمية مع الحرب»، ولماذا لا تلتزم الحركات غير الموقعة بعدم الاعتداء على مشروعات التنمية اذا كانوا فعلاً رفعوا السلاح من اجل التنمية وليس من اجل الوظائف، ودارفور هذه الايام «شبعانة» وظائف ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، ومخطئ جداً من يظن ان المشكلة هي مشكلة وظائف لساسة دارفوريين جدد وآخرين قدامي، فالدارفوريون مسكونون بالتهميش، ومنذ عهد ليس بالقريب، بل قبل نيل الاستقلال، والتخلف التنموي الموروث نتاج اسباب كثيرة ومتعددة، وللحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال والي اليوم نصيب، والاهمال الذي شهده الاقليم ليس كله عن قصد. ومن قبل الاستقلال ادرك اهل دارفور اهمية التنمية وخاصة وسط طلائع المستنيرين منهم، وكانوا يأملون مثل بقية اهل السودان ان يحقق لهم الاستقلال مطالبهم، ولكن هيهات، فقد انتظر الناس السراب. ومع منتصف الستينيات بدا الرعيل الاول من مثقفي دارفور التعبير المهذب عن رغبة اهلهم في ان يروا التنمية والخدمات في قراهم وفرقانهم البعيدة، فكانت جبهة نهضة دارفور وليس تحرير دارفور، ولو استجاب الساسة مبكراً لما اضطررنا لما نحن فيه اليوم. ولكن على كل حال سنين مرت ورأى الناس السراب والوهم ولم يتحقق شيء مما كان يمنيهم به رجال الاحزاب والحكومات، وشهدت دارفور عشرات المؤتمرات للصلح بين القبائل والبطون والافخاذ، بل يتكرر الصلح الواحد لعدة مرات، وتمنيت لو كانت هذه المؤتمرات مؤتمرات تنمية بدلاً من دفع دية قتيل او تقدير خسارات تلف لحيوانات اليفة رعت في حقول تروي بماء السماء. شكراً للدكتور التجاني سيسي الذي قطع آلاف الاميال واكباد الابل لتقديم الدعوات واقناع المنظمات والدول للمساهمة في اعمار دارفور، ولماذا لا يتدافع اهل السودان واهل دارفور في نفير كبير للإعمار مثلما استنفروا من قبل للدمار، وكثيرون يرون ان الداخل السوداني تجاوب مع نداءات دارفور الإنسانية بحماس منخفض مقارنة مع المجتمع الدولي، حتى ان الاطفال في دارفور ينظرون الى الخارج على أساس أنه المنقذ الاول، مما جعل الحل الخارجي اكثر قبولاً، وبدلاً من سودنة القضايا ودرفرة الحلول صار التدويل جذاباً. واليوم يجتمع الناس في الدوحة من اجل سبعة مليارات ونيف من الدولارات هي المبالغ العاجلة لعودة الحياة في دارفور الي طبيعتها في حدها الادنى، وقد قدرت تكلفة الحرب في دارفور بما يقارب الثلاثين بليون دولار، وهي خسارة يمكن ان تعوض، ولكن خسارة الارواح والضمائر لا تعوض، فقد تهتك نسيج المجتمع وتقطعت العرى، ولم يعد المجتمع متسامحاً، ولم يعد الحوار خطاباً، ويحتاج الناس الى سنوات لإعمار خراب القلوب، فالمجتمع الدولي يستطيع أن يساهم في الاعمار المادي ولكن اعمار النفوس يحتاج الى جهود سودانية وجهود دارفورية صادقة وعاجلة، فلماذا لا نطلق مشروع «دارفور بلدنا» لنعمر البلد ونحمي الولد. والمتوقع من مؤتمر الدوحة هو استجابة المجتمع الدولي لاستراتيجية اعمار دارفور تحت رعاية دولة قطر التي ما تعودت ان تدخل في عمل دون حساب النتائج، وقد اعدت الاعداد الجيد وهيأت الحضور، ولا نشك في استجابتها هي مثل ما فعلت من قبل، وبعد يومين سنسمع ونرى ولكن ماذا بعد؟ هل نحن مستعدون؟ وما هي الادوار المطلوبة من الدولة السودانية واهل دارفور ممثلة في السلطة الاقليمية وولاياتها؟ وما هي اولوياتنا وما هي استعدادتنا لتنفيذ المشروعات التي لا تقبل التأجيل؟ فقد أثبتت التجارب ان عدم التنسيق والتضارب وتداخل الاختصاصات يعيق بل يعطل ثمرة كل هذا الجهد الذي بذل، وما لم نصل الى رؤية واضحة واولويات متفق عليها سوف نجني من كل هذا الندم.. وغدا اهل المركز يتمترسون ويتحدثون عن ولاية المال، وهذا صحيح، وتنبري السلطة ومعها مفوضياتها ليقولوا نحن اهل الجلد والرأس، وتأتي الولايات ومن خلفها المحليات ويقولون نحن الاصل، وتضيع القضية وتتبدد الجهود وتتعطل مصالح الناس، وحسما للاًمر لا مناص من قيام آلية فورية تكون بمثابة جسم لتنفيذ مشروعات دارفور العاجلة، وتشمل الآلية رئاسة الجمهورية، وزارة المالية، سلطة دارفور، المفوضيات المعنية ووزراء المالية بالولايات، والمطلوب ومن الغد ان نعرف ان ملف التنمية في دارفور ملف واحد لا يتجزأ، فليس من مصلحة اهل دارفور التنازع حول من يفعل ماذا، ولكن المطلوب ماذا هناك على الارض من خدمات. ورجائي الاخير هو تخصيص المبالغ التي تجود بها مواعين المانحين لمشروعات الطرق الرئيسة والطرق الفرعية وخدمات المياه، لأن الطرق تمكن المواطن في الأماكن النائية من الوصول الى الخدمات بسرعة في حال عدم توفرها في منطقته، اما المياه النقية فتجعل الناس أصحاء مستقرين في أماكنهم وتجنبهم الاحتكاك.. اللهم كلل جهود المجتمعين بالنجاح وجنب اهل دارفور الفتن ما ظهر منها وما بطن.