: وقف المعلم في طابور الصباح لينبهنا إلى أهمية المساهمة في طباعة امتحانات الفترة الأولى, وشدد على دفع القيمة المطلوبة نسبة لغلاء الأحبار والأوراق ومدخلات الطباعة, لأن كتابة الامتحانات على السبورة بالطباشير أصبحت موضة قديمة أكل عليها الدهر وشرب ثم غسل يديه. لما دنت الامتحانات ولم يجد الوعيد ولا التهديد طردونا في وضح النهار وقال المدير: إن لم تأتوا برسوم الامتحان لا تعودوا أبدا, هذه فصول مكتظة ? كثرة بلا فائدة. تركنا حقائب الدرس في الفصل على أمل العودة إن تيسرت الأسباب, لما توارت مباني المدرسة من أعيننا أخذنا نلعب الكرة في فسحة اعتدنا أن نخرج إليها في حصة التربية الرياضية, كان أصحابي يهتفون باسمي عندما أتأنى في إطلاق الكرة من قدمي وأسرف في المحاورة: - فك الكرة من قدمك يا سعدون ....... يفكك من سابع دور. لما سال العرق وخلدنا إلى الراحة, دنا مني ولد طويل, ظننته من أولاد الثانوي, وفي مودة ناداني باسمي: - يا كابتن سعدون ....... - أهلا..... - لعبك ظريف, لكن عندك أنانية..... ابتسمت في وجهه مقابل ابتسامته الودودة فقال: - فيك مشروع لاعب , يجيب دهب. لم آبه لكلامه وانصرفت مع أصحابي لأن جرس الفطور رن في المدرسة وخرج الأولاد فانطلقنا معهم نحو البيوت مثلنا مثلهم كأن المدير لم يطردنا. تكررت ظاهرة الطرد, رغم أن العدد أخذ يتقلص, في كل يوم يدفع نفر من التلاميذ, فينقص عدد الراجعين, معنا إلى الساحة لكن صاحبي الذي رأى في مشروع لاعب ناجح أخذ يلاطفني قليلاً قليلاً حتى ملتُ إليه, وصرت أفتقده إن تأخر عن متابعته لنا ونحن نتقاذف الكرة. قبل المدير نصف القيمة, وفيما بعد ربع القيمة, وفي آخر الأمر عفا عنا لما يأس مقابل أن نسقي شجر المدرسة في الصباح ونشرف على إغلاق الفصول آخر النهار, لأن الخالة المسؤولة عن إغلاق الفصول قد بلغت من الكبر عتيا, ولا تستطيع الصعود للنوافذ لإغلاق الترابيس أصبح صاحبي الذي رأى في مشروع لاعب يأتينا في نهاية اليوم الدراسي يجود علي مرة بقطعة شوكلاتة ومرة بسبوسة في لطف وجيبه عامر بالعملة الورقية, لا أدري من أين يأتي بالمال, لكنني ملت إليه وهو يغدق علي من غير من ولا أذى. ذات مرة انتظرنا في ظل الفصول بعد صلاة الظهر, لأن نفراً من أصحابنا تأخروا في رش الفصول وكنسها وإعدادها لليوم التالي. - قال صاحبي: لماذا تتأخر هكذا؟ - قلت: أنا مسؤول عن إغلاق فصلنا, أطفئ الأنوار والمراوح, وأغلق النوافذ, وأساعد الخالة في إغلاق الباب. - قال: وهل في فصلكم مراوح؟ - قلت: نعم, في فصلنا مروحتان, مروحة اشتركنا قيمتها, وأخرى تبرع لنا بها رجل محسن. - قال: راحات, والله نحنا كان الحر خانقنا, لا مراوح ولا يحزنون.... في اليوم التالي حضر صاحبي مبكرا وأعطاني قطعة حلاوة البقرة الأصلية ذات المذاق الحالي, شكرته وهممت أن أسأله من أين يأتي بالمال لكنني آثرت السكوت. عندما شرعت في إغلاق النوافذ قال لي: هل تسمح لي بأن أساعدك؟ - قلت: تفضل. - قال: سوف أغلق لك هذه النافذة. ثم أطفأ الإضاءة والمراوح وخرجنا مسرورين مثل صديقين, وفي اليوم التالي دخلنا الفصل ولم نجد المروحة المذهبة التي أهداها لنا الرجل المحسن. قالت خالتي فاطمة: أنها عندما فتحت الفصل لم تجد المروحة, ثم وجدت النافذة الوسطى مشرعة, نفس النافذة التي استأذن صاحبي في إغلاقها . استدعاني المدير وكان حزينا وسألني عن النافذة هل كنت متأكدا من إغلاقها, ترددت في الإجابة وتلجلجت, فاشتم رائحة خوفي لاطفني حتى يذهب روعي, لكنني كنت خائفا أرتجف, فتصببت عرقا, شرع المدير يمطرني بأسئلة إيحائية, وبصره مسمر في ملامح وجهي حتى انهرت تماما وتداعيت أروي له وقائع ما جرى من الألف للياء. ثلاثة أيام لم يظهر صاحبي متسكعا حول فناء المدرسة كما كان يفعل. استدعاني معلم الفنون وأمطرني بسيل من الأسئلة, وفي كل إجابة يطالبني بأن أرفع صوتي, ما كان يكتب في مفكرة ولا كراسة, لكنه كان ينظر إلى أسفل حينا بعد حين, لمست من أسئلته ودا فأفضيت له بكل التفاصيل ووصفت له صديقي وصفا دقيقا. عندما استدعاني المدير إلى مكتبة وسألني إن كنت متأكداً بأن صاحبي هو الذي أغلق النافذة الوسطى تملكني خوف من المجهول فأنكرت ذلك. لكن معلم الفنون أخرج من درجة قرصا في الجهاز وبعد شخشخة قصيرة جاءني صوت الذي لا تخطئة أذني فاعترفت. هدأ المدير من روعي وأعاد الثقة في نفسي وقال: - نحن لا نتهمك يا سعد بتدبير ذلك أنت تلميذ خلوق تحب مدرستك وتساعد في كل أعمالها بروح قيادية عالية, كل الذي نرجوه منك أن تدلنا على صاحبك إن ظهر حول المدرسة من جديد. في يوم الخميس أخرجونا لنظافة الحي لنجمع الأوساخ ريثما تأتي عربة النفايات لتحمل ما جمعنا في ميدان المدرسة, لمحت صاحبي من بعيد زادت دقات قلبي, وتملكني الخوف حتى سقط الكيس الذي كنت أحملة لأجمع فيه الأوساخ,لكني لمحت معلم الفنون من بعيد فعطفت إليه وأخبرته بأن صاحبي قد حضر وهو واقف قرب عمود الكهرباء يرتدي فانلة برتقالية. قال معلم الفنون: واصل عملك مع أصحابك, وإن دعاك فأجبه وإن سلم عليك فسلم عليه كأن شيئا لم يكن. لوح لي صاحبي من بعيد وابتسم فابتسمت له, وهو متسمر في مكانه, يتابعني بنظراته كأنما ينتظرني ? لم تمض ربع ساعة حتى جاءت عربة النفايات فهرعنا نحوها, لينزل منها شرطيان, حاول صاحبي الهرب لكنهما حاصراه مثل الكماشة, وضعت يدي على رأسي والشرطيان يحكمان وثاق يديه ويدفعانه إلى عربة النفايات التي لم تحمل ما جمعنا لها من الأوساخ لكنها حملت صديقي وانطلقت.