: كلمة «البل» من الكلمات الشائعة في لغة مجتمع سائقي المركبات العامة، وهي تعني القيادة باقصى سرعة لتجاوز السيارات العاملة فى خطوط المواصلات من اجل شحن المركبة باكبر عدد من الركاب لزيادة حصيلة الفردة الواحدة، والفردة هي المشوار من الموقف الى آخر محطة والعكس صحيح. وينصح سائقو المركبات العامة كل من ينضم اليهم من السائقين الجدد بقولهم «رزقك فى ابنصيك»، الارزاق بيد الله، ويعتبر سائقو المركبات العامة ان الراكب الذى يقف فى المحطة او بجوار الزلط خط احمر يجب عدم التفريط فيه او التنازل عنه او التبرع به لاي سائق آخر مهما كانت الدواعى، وهنالك مقولة شائعة فى اوساط مجتمع سائقى المركبات العامة تحكم العلاقة بين افراد المجتمع فى الشارع العام وهى مقولة «ما فى خوة زلط». والعبارة هذه تضع جوهر قانون سائد ومتعارف عليه ومتفق حوله ولا يتسبب فى احراج او خلافات بين السائقين الذين عندما يجلسون على الارض يأكلون ويشربون معاً ويتسامرون ويضحكون ويمزحون، وبمجرد ان يجلس احدهم على مقعد القيادة ويمسك بالمقود تنقطع علاقته بزملائه، ويشرع في بلهم، والبعض يغامر حتى ولو ادى ذلك الى كارثة وتسبب فى حوادث مرورية. ولسائقى المركبات العامة أساليب وفنون فى ممارسة «البل» للسيطرة على مقاليد الامور فى الشارع العام، منها «القرص» وهو اعتراض طريق عربة مندفعة و «خطف الشارع» وهو تجاوز اشارات المرور والتقاطعات، و «قفل الباب» وهو إيقاف العربة بمحاذاة العربة الأخرى لمنع الركاب من الصعود، ويحدث ذلك فى إطار منافسة يعتقدون أنها شريفة من اجل الفوز بالركاب وإحراز اكبر عدد من الفرد. ويبدو ان التدهور الذى اصاب كل مناحى الحياة فى السودان انعكس سلباً على جميع القطاعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية، حيث زالت الفوارق وتشابهت الازمات والهزائم والاخفاقات والممارسات وتقارب السلوك، وفي السياسة تحديداً يتحول التنافس السياسي الى صراعات بشكل اشبه بما يحدث فى موقف المواصلات، وتسود الرغبة في تحقيق اكبر عدد من الفرد السياسية من اجل المكاسب الحزبية والشخصية والعشائرية، وتاريخ الصراع السياسى فى السودان حافل ب «البل» والقرص وقفل الباب، ولا توجد خوة سلطة، والدليل على ذلك ما تشهده الآن الساحة السياسية من خلافات بين الاحزاب مثل الخلاف بين حزب الامة والاجماع الوطنى، وصراعات مراكز القوى حتى داخل الحزب الواحد، وما يحدث فى اروقة الحزب الحاكم والنزاعات المسلحة فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق ومحاولات انقلابية فاشلة، كل ذلك لا يختلف كثيراً عما يحدث فى موقف المواصلات من فوضى وما تشهده طرقاتنا وشوارعنا من معاناة للمواطن وحوادث وكوارث، فجميع الاحزاب مهما صغرت وكانت فى حجم ركشة او كبرت فى حجم دفار جامبو او كانت حاكمة ومسيطرة على «الزلط» فى جميع الخطوط وشغالة بدون نمره مثل «بص الوالى» او حتى كانت ترلة «قاطرها قندران»، جميعها تمارس ثقافة «البل» و «القرص»، كما تتعمد قفل الباب والسيطرة على مقاليد السلطة والانفراد بالقرارات والتضييق على الحريات العامة، وذلك من اجل ان تظل راكبة «الزلط» كراسى السلطة دون اعتبار لمعاناة الراكب او المواطن. والآن الساحة السياسية تعيش اجواء التفاؤل والانفراج السياسى عقب الدعوة التى اطلقها رئيس الجمهورية للحوار السياسى ومن قبله النائب الاول، وكذلك ما تم من لقاءات وحوارات بين القيادات السياسية واطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وايضاً انفراج العلاقة مع دولة الجنوب وقبول الحكومة الحوار مع قطاع الشمال، وما يطرح الآن من مبادرات ودعوة للمشاركة فى كتابة الدستور. فكل هذه الاجواء تمضي في اتجاه إجراء حوار شامل يجب أن يتضمن حوارات داخلية على مستوى الحزب الواحد، وكذلك حوار مع المواطن الذى تجاوزته كل الاحزاب المندفعة نحو السلطة، حوار يفضى على اقل تقدير الى انجاز الدستور الدائم للبلاد، دستور يحقق التوافق الوطنى والاصلاح السياسى والاقتصادى المنشود، دستور يضع حداً ل «البل» عبر النزاعات المسلحة، ويحقق ادارة أمثل للموارد والتنوع الثقافى والاجتماعى، دستور يمكن تحميله كل المطالب التى تنادى بها الاطراف وحركات التمرد وما تسعى اليه الحكومة من تحقيق الأمن والاستقرار وما تنشده الأحزاب السياسية من تداول سلمى للسطلة واشاعة الحريات العامة واقرار العدالة الاجتماعية. دستور يحتكم إليه كل السودانيين ويعزز قدرتهم على ادارة صراعاتهم، ويرى فيه الكل انه يعبر عن تطلعاتهم وحقوقهم الدستورية والسياسية والاقتصادية والثقافية، دستور يتضمن المبادئ والموجهات التى اتت بها اتفاقيات السلام المختلفة فى اقتسام السلطة والثروة، دستور لا يسمح لأي طرف او جهة او جماعة سياسية او عرقية بحمل السلاح بدعوى التهميش، دستور يضع حداً للتعسف فى استخدام السلطة والهوية من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لجهة او لجماعة سياسية أو عرقية معينة. وإلا ستصبح الدعوة إلى الحوار هي نفسها والاستجابة التي تمت لها، شكلاً من أشكال «البل» و «الخوة ما ظلط» مع الاعتذار لكل سائقي المركبات.