في صحيفتنا هذه ملف ترويحي يُنشر كل جمعة يتصدره شعار ثابت هو «فقرانين وتغيانين»، وأضيف من عندي وما سائلين في أتخن تخين وعندنا الكبير الله ولا أقول الجمل كما جرى المثل، وغض النظر عن موضوعية أو عدم موضوعية هذا الشعار إلا أنه يشخّص ويعكس حالة سودانية معروفة، فالفقير منا لا يتردد في ذبح شاته الوحيدة لإكرام ضيف هجعة عابر ولا يقبل أبداً أن يستضيفه بكسرة خبز جافة هي كل ما في بيته من طعام. ورقيق الحال فينا يمكن أن يستدين لكي يسد حاجة من هو أرقّ حالاً منه، وعلى ذلك قس، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك حالة سودانية ثانية مشهودة وهي التبذير والاسراف في بسط موائد الطعام عند الأسر المقتدرة بكميات تفوق كثيراً حاجة أفراد الأسرة فيذهب كثير منه إلى مقالب القمامة، بل أستطيع أن أزعم أن الفقراء أنفسهم يمارسون هذه العادة حين يعدون طعامهم الفقير فإنهم يعدونه بأكثر من حاجتهم ويذهب الباقي أيضاً إلى الكوشة، والأغرب أن هذه الظاهرة السودانية ليست حكراً على الأسر السودانية داخل الوطن وإنما انتقلت مع الأسر التي هاجرت خارج الوطن، وتحضرني في هذا الصدد واقعة طريفة في ذم هذه العادة السودانية، ففي واحدة من محاضرات مادة التحرير الصحفي وكان موضوعها «العنوان الصحفي» وكنا وقتها طلابا ندرس الصحافة، وكان أستاذ هذه المادة مصري هو الدكتور أحمد المغازي وكان شديد الغيظ مما شهده ووقف عليه من إسراف وتبذير الأسر السودانية ورصده للمعدلات الكبيرة من فاقد الطعام التي تذهب إلى الزبالة رغم صلاحيتها للاستخدام الآدمي، فما كان من هذا الأستاذ بعد أن طرح هذا الموضوع إلا أن اقترح له عنواناً هو «بمراجعة صفيحة الزبالة ينصلح حال الاقتصاد السوداني»... بالأمس أعاد السيد وزير البيئة والتنمية العمرانية التذكير بهذه العادة السودانية حين أشار إليها في مؤتمره الصحفي الذي عقده بمناسبة الاحتفال بيوم البيئة العالمي، قال الوزير إن العالم يقذف ب(33%) من الغذاء في مزابل النفايات وغالبية هذه النسبة تخرج من المجتمعات الأفريقية ومن ضمنها السودان الذي يفتقر إلى التدريب على الاستهلاك المرشد.. ونضيف إلى ما قاله الوزير عن السودان، أن كثيراً من الأشياء والممتلكات التي يمكن إصلاحها والاستفادة منها مجدداً مثل الأثاثات وغيرها يقذف بها على أسطح البيوت ورؤوس المنازل، فمثل هذا التصرف يدخل أيضاً فيما يمكن أن نسميه الاختلال في إدارة الاقتصاد المنزلي، وهذا باب واسع يبدأ من مرحلة تقييم الحاجيات الضرورية لإستهلاك الأسرة ومقدار المصروفات اللازمة خلال وقت معلوم، وتحقيق التوازن بين الدخل والمنصرف وتعليم أفراد الأسرة وخاصة الأطفال على ترشيد الاستهلاك وعدم التبذير، ولا ينتهي إلا بترتيب الحياة الأسرية على النحو الذي يحقق الاستقرار ويبعث على الاطمئنان. إن أهمية موضوع الزبالة يكمن في علاقتها الجدلية بالسياسة والاقتصاد، ومن هنا فإن الأمر ليس شأنا أسريا محضا، ولا هو أمر ترشيد فقط، وإنما له علاقة قوية بأنظمة الحكم والسياسات غير الرشيدة التي تزلزل أركان المجتمع وتقسمه إلى فئتين، فئة منعمة وغنية ومرفهة تلقي بفضلاتها في المزابل، وفئة معدمة لا تجد شريحة منها حتى الفتات فتضطر للإقتيات من هذه المزابل والأمثلة موجودة بكثرة.