: * توزع هيئة المياه " بربر " أحياء المدينة في كل صيف -بل حتى الحي الواحد منها- الي ثلاثة أقسام، أولها ينعم بالماء في كل الأوقات ولا تنقطع عنه الا في حال انقطاع الكهرباء، أما الثاني منها - ويمثل السواد الأعظم - جعلته بين المنزلتين، تارة لا تأتيه وهي الأغلب وفي التارة الأخرى تأتيه في الساعات المتأخرة من الليل وفي وقت التهجد تماماً ما بعد الثانية صباحاً وقد تمتد الي الخامسة صباحاً ولا يعرف السبب لهذا التوقيت المتأخر، فلماذا نفس هاتين الساعتين أو الثلاث ليلاً لا تكن في أي وقت من النهار. * مع اعتبار أن هذا السهر لترقب مجيء الماء يكون قبله وبعده انتظار بالساعات الي جانب أنه ليس كل يوم تسهر وتجد الماء فقد تأتي يوماً وتغيب يومين أو أكثر وصولاً الي أحايين كثيرة الي الغياب عشرة أيام كاملة. *أما القسم الأخير فلا يجد منها البتة ما يروي به ظمأه لا آناء الليل ولا أطراف النهار حتى ولو أستخدم الموتور - الذي يأتي بالماء رغماً عن أنفه - مما يضطره الي طلب قطع الماء عنه مختاراً ومضطراً حتى لا يدفع لشيء بدون مقابل. * بهذا التقسيم كأنما الهيئة تسعي لارساء مفهوم جديد خاص بها وان كان بقصد أو بغير قصد منها، فنحن نسمع بالخط الساخن في هيئة الكهرباء وأمره عندها هين، فمفاتيحها وأسلاكها معلقة أمام الأعين وفي الهواء، لكن هيئة المياه بتقسيماتها الثلاثة تلك، فقد أضافت مصطلحاً جديداً في قاموس مواطن " بربر " هو «الخط البارد» اذ يوجد الماء في أحياء دون الأخرى وفي الحي يوجد في منطقة دون الأخرى وفي المنطقة ذاتها يوجد في منزل دون الآخر، مما يجعل المواطن يتعجب كيف تستطيع هيئة المياه تطبيق مثل هذه " البرمجة " الموسمية الثابتة والدقيقة دون اخلال في "مواسيرها" "وخراطيمها" المدفونة تحت الأرض. * علي كل يحق لها أنت تسجل هذا المصطلح الجديد - الخط البارد - باسمها في هيئة حقوق الملكية الفردية ، لكن ليتها تستطيع أن تسجله بعبارة أخري تمثل انجازاً هي -الخطوط الباردة- شريطة أن لا يكون هذا الانجاز حكراً علي فصل الشتاء كما هو معتاد منها. * وتتواصل الأعاجيب منها فالمتعارف عليه أن ضخ المياه عبر " الحنفية " لدفع المشقة ورفع الضرر، لكن الغريب عند أصحاب المنزلتين " القسم الثاني " تجعله جد أمرا متعبا، فالماء وان صبته الحنفية علي سهر فهو مستجلب من البئر، نعم والله من البئر فالماعون لا بد أن يكون أسفل منها وفي حفرة عميقة وبعد أن تملأه الحنفية علي أقل من مهلها يستخرج مثله مثل الدلو تماماً، فلا تحلم في الصيف أن تأخذ حاجتك من الماء بغير هذه الطريقة. * أما المضحك المبكي أن عربات " الكارو " والتي تبيعك الماء تجدها تقف بالقرب من الحنفية صاحبة الصوت المتحشرج - هذه الأيام - علي الدوام مما يدل علي أنها تغط في سباق عميق بل أن صح التعبير في بيات صيفي كما العادة ليبيع أصحاب "الكاروهات" الماء في "حارات" سقايين الهيئة فمصائب قوم عند قوم فوائد. * أما من يدفع الثمن لكل مصائب الهيئة هذه هو المواطن المغلوب علي أمره، فمن أجل أن يشرب ماء النيل يدفع مرتين، مرة يسدد الفاتورة الشهرية لهيئة المياه، ومرة ثانية يسدد الفاتورة اليومية لصاحب "الكارو" ورغم كل هذا الدفع اليومي والشهري لم يطفئ بعد ظمأه في بلد النيل . * والغريب في الأمر أنه في أغلبية المدن السودانية التي ترقد علي ضفاف النيل أنها لا تستطيع أن تتذوق الماء العذب السهل التناول والرخيص، بل تتجرع الماء المر الغائر في جوف الأرض المكلّف بحفرها للآبار "الارتوازية". * اذن فحال السودان كله والذي يحمل كل هذه الأنهار علي ظهر أرضه كحال أبل الرحيل "شايلة" السقي وعطشانة، بل يكاد يصل عطشه هذا الي حد القتل ظمأً. كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ *** والماء فوق ظهورها محمول * وهنا لا تملك هيئة المياه الا الاعتذار في كل صيف بالعذر الجديد القديم أنه لديها طلمبة واحدة في نطاق الخدمة فهل في الشتاء تعمل بأكثر من طلمبة أم هي الواحدة نفسها، لكنها في الشتاء تكفي حاجة المدينة والمعلوم بالضرورة أنها تقل في هذا الفصل. * اذاً فقصة العجز المتكررة في ايفاء حاجة المدينة من الماء صيفاً يجعلنا نتخيل حجم المواعين التخزينية للهيئة وسعتها، هذا ان وجدت أصلاً أو مستخدمة فعلاً، اذ أن العديد من محطات مياه الولاية تسحب من النيل والي "مواسير" خطوط الاستهلاك مباشرة . * كل هذا يذكرني بحكمة الجد "مصطفى الباجوري" عليه من الله كل الرحمة والذي كلما شرب الماء العذب البارد بعد أن يأخذ نفساً طويلاً كله راحة يقول:«الحمد لله علي "الموية دي" أغلي شيء وأرخص شيء». الا أن ممارسات الهيئة تغير العبارة تماماً في كل صيف فيصير الماء أغلي شيء لندرته وشحه وغلاء ثمنه وأرخص شيء لكثرة قطوعاته وعدم اهتمامها بتوفيره. * بالمناسبة لا أدري لماذا كل هذه القطوعات للكهرباء والماء في هذا الصيف جال بخاطري وبلا مقدمات هدير دبابات الانقلابات وفي الوقت ذاته وبالجهة المقابلة " دوي هتافات الانتخابات وان كان في الظاهر لا يوجد بينهما رابط . * ربَّما أن جل الانقلابات لو تأملت التاريخ بعين مدققة تجدها قامت في عز أشهر الصيف القائظة من "أبريل" الي "يونيو" وعكسها تماماً في حال قراءة توقيت الانتخابات والصعود الي كراسي السلطة عبر صناديق الاقتراع فتجد أغلبها يوافق أشهر النسمات الشتوية الباردة من "نوفمبر" الي "يناير". * هذا يحفز للقول انه علي كل الحكومات التائقة للنجاح بارساء دعائم حكم مرغوب فيه وفي استمراريته ان تعمل علي طرح برامج تعالج بصورة جذرية كل قطوعات ومشاكل الصيف وذلك من أجل أن تتجنب لعنة انقلابات الصيف ومن ثم تضمن في الوقت نفسه حصد نقاط صناديق انتخابات الشتاء.