٭ على نسق أخبار البنت مياكايا، نقلت أجهزة الاعلام مؤخراً خبر زيارة رئيس الجمهورية في ثلة من رموز الدولة ومواطن محلية كليمندو بولاية شمال دارفور للروائي ابراهيم اسحق في داره بالثورة ام درمان، مكرمين له ومباركين موهبته وناقدين للتجربة السودانية الراهنة في مجال الثقافة عندما تلفنته مهنئاً فور إطلاعي على الخبر، فما وجدت فيه إلا تواضعه القديم، وتنامي روح الإمتنان لديه، فقد كان حفياً بالمناسبة على إعتبار ان الدولة أخذت تبدي استعداداً لإعادة قراءة الواقع الإداري الثقافي بما يحفز المبدعين أن يساهموا به في تشكيل وجدان الأمة. على تواضعه الجم، فان ابراهيم لماح وعنيد ومصمم على أن يعرف اكثر في مجاله، وللقراء تجاربهم معه في الحاحاته المعرفية، وكثيرون رأوا فيه رمزاً للتنامي المعرفي. ذات يوم في سبعينات القرن الماضي، كان يجلس بيننا مجموعة من المهتمين بالشأن الثقافي، الراحل قيلي احمد عمر الأمين العام المؤسس للمجلس القومي للآداب والفنون عندما أطل ابراهيم من بعيد، ابتسم قيلي إبتسامة ذات معنى لم يلق الحاضرون لها بالاً عندما اقترب ضاحكاً سأل (عمي قيلي المخليك تتبسم كدا شنو؟) بعد برهة صمت، رد قيلي (طبعاً ابراهيم إنتو ناس الغرب، إما تأليف كتاب أو تدبير إنقلاب). ضحكنا جميعاً وللحق على كثرة المحاولات الانقلابية أيامئذ، إلا أن أجهزة الاعلام ظلت تحاول ان تجعل من أهل الغرب كبش فداء وبعبع تخويف لا مبرر له. أما اليوم وبعد كل تلك العقود التي تصاعد فيها النزاع حول الحقوق وقد وصلت حد حمل السلاح والتدخل الدولي، أخذت موجات الاختلاف تتراجع، وتلجأ الدولة الى تسوية النزاعات باتفاقات سياسية تنموية، بضمانات دولية، وفي ذات الوقت تتيح الفرص للتعبير الثقافي ان يمر وتسعى الى تكريم رموزه في مختلف ميادين الابداع ومن بينهم ابراهيم اسحق. إن هذه خطوة أخرى الى الامام في الطريق الطويل الشاق للتراضي السياسي والتنموي بشقيه الثقافي والاقتصادي في البلاد. مثل مارتن لوثر كنج، فان ابراهيم قلما يلفت اليه النظر بمظهره، وهو في سلوكه شخص عادي من ودعة، وعندما كان اصغر سناً كانت تتملكه موجات حمق تدفعه الى اتخاذ قرارات غير منتجة، ولكن قلما يوجد شخص أصبر على العمل الابداعي المنتج منه، إنه لا يهتم بالبيئة التي ينتج فيها، قدر اهتمامه بالمنتج نفسه، لقد استطاع ان يطور في ذاته آليات التحمل، فقد خرج الى العالم من بيئة غنية ثقافياً ولكنها معزولة جغرافياً وانسانياً، وبلا بنيات تحتية للتواصل على الاقل في الوقت الذي التحق فيها بالمدارس في مدينة الفاشر. من ناحية أخرى، وكدلالة على قدرته على التحمل، أنه وضع مسؤولية بناء ذاته الثقافية على الإطلاع المضني وليس التثاقف الشفاهي كما هو الحال في معظم الحالة السودانية، واضحى بين أنداده معروفاً ك(دودة كتب). على انه عندما بدأ يكتب الرواية بدأ يكتب من محاضن الصعوبة التي عاشها في طفولته، وعاشتها بيئته مع النظم الإدارية المتعاقبة، بما في ذلك الإدارة الاستعمارية، التي ضاعفت العزلة على المنطقة بوسائل إدارية محبطة ثقافياً. عندما يحكي ابراهيم، يحسن سرد تفاصيل حياة بالغة التعقيد، ولكنه لا يترك المتلقي في متاهات، فهو يضع علامات تعيد الذاكرة الى البدايات وخطوط السير. ذات مرة كنت اساءله عن حجم الصلة السردية بينه وبين الروائي الامريكي فوكز؟ يأخذ فوكز يسرد حدثاً واحداً بأكثر من رؤية مستقلة من خلال شخوص رواياته، فيما يذهب ابراهيم الى سرد ذات الحدث بمشاركة شخوصه جميعهم، واذا ما كان هناك من فرق، فان فوكز يعبر عن مجتمع تمت فيه روح الفردانية، وكأن الفرد أصبح عالماً قائماً بذاته، فيما يعبر ابراهيم عن شراكة مجتمعية عاطفية انسانية وإن اختلفت مفردات التعبير عن القيم المشتركة والمسؤولية الاخلاقية تجاه ما يحدث من يستطيع ان ينسى ما حدث بالقرية يومئذ؟ وأصوات الجميع حاضرة على مسرح الحدث، وقد كان ذلك يتضح اكثر بالمقارنة مع الفيلم الامريكي (الفك المفترس) يومئذ، والذي أحدث إنطباعاً لا يقل قوة وفزعاً في محيط أوسع في الشواطئ الامريكية. وعندما يحكي ابراهيم أيضاً، في تفاصيل حياة يتطلع الانسان العادي الى تغييرها سلمياً وتدريجياً يتوقف المرء عندما أخبره أن ما كتبه من روايات ولغة مختلفة، ساهم بوسائل مختلفة في زيادة الوعي بالغبن والظلم التاريخيين للدارفوريين، ما سهل على جيل الشباب ان يرى في أعماله مداخل لنشدان التغيير بالسلاح. لا يقول ابراهيم ان اعماله لم تفعل، ولكنه ظل على خط مستقيم من النقد لتجربة الحركات المسلحة لجوانب العنف المفضي لتدمير التجربة المحلية المورورثة، إنه مع التغيير، ولكن ليس مع أسلوب العنف في كل الاطراف. ربما كمعلم أيضاً ظل قلقاً بشأن مساهمته في ترقية العملية السلمية ثقافياً، بما في ذلك بناء قدرات الشباب من الجنسين، لذا ظل متحمساً في تأسيس مركز كليمندو الثقافي الذي بدأ خطواته الاولى، وهو يعد من المشروعات التي تتطلع الى العون والرعاية. لعل الفضل في تقديم ابراهيم للقاريء السوداني، يعود الى إبرام اتفاقية اديس ابابا (2791) التي اعترفت بالتنوع الثقافي في البلاد تلك الخلفية برزت مع الايام مهرجانات ونُخب ثقافية وإبداعية تعبر عن ثقافات الاقاليم، رمز الجنوب الثقافي الصديق الراحل السر أناى الذي قدم مجموعته الشعرية الاولى (أخي محمد) بالانجليزية، وقد حصل على جائزة الواعدين في اولى مهرجانات الثقافة (5791)، بينما كان محمد سعيد دفع الله ومختار عجوبة وغيرهما رموز ثقافة الشمال، ثم كجراى وآخرين طالما رمزوا الى ثقافة الشرق، أما الغرب فقد برز له ابداعياً ابراهيم اسحق وعالم عباس وفضيلي جماع وغيرهم. وسط الزخم الجديد المتصاعد لترسيخ التنوع، كان النقد الذي وجه الى لغة السرد لدى ابراهيم، أثارت كوامن غضب، واضافة الى انه وجد نفسه قليل حيلة فقد كرس وقتا أطول للبحث الثقافي في سيرة الهلالية، ثم لجأ الى الاغتراب أيضاً، على ان الاخير اضر بتجربته ايما ضرر. جاء التعويض في حالته من مجموعة من المسرحيين الشباب في الفاشر، في تسعينات القرن الماضي، وكان يقودهم المخرج المسرحي يوسف سليمان من خريجي معهد الموسيقى والمسرح. كان يوسف الذي طور تجربته الاكاديمية الى الماجستير لاحقاً، شديد الولاء لثقافته الدارفورية، وشديد الاعجاب بمفردات ابراهيم السردية، فعمل على مسرحه أعماله، وكنت سنواتئذ بالمدينة اشاهد تلك الاعمال المنتجة وكنت أرى فيها مستقبلاً باهراً، برغم الاوضاع الظلامية التي كنا نعيشها في تلك الايام، لقد كتب يوسف لابراهيم يستأذنه الاستمرار في مسرحة اعماله، وكان ابراهيم يظن الا أحد يهتم بأعماله، سعد بالطلب في تحفظ، لقد سمح لهم بالاستمرار في تناول أعماله مسرحياً، وقد ذيل موافقته بأن يكون ذلك (على مسؤوليتكم) كانت تلك بداية أخرى للتواصل بين ابراهيم الروائي وجيل جديد من المعجبين والمدركين لقيمة أعماله الروائية في اقليم المولد والنشأة والعاصمة الاتحادية. لقد ظل المجتمع السوداني متدرجاً في وعيه بقيمة ابراهيم اسحق كروائي وباحث، في نهاية السبعينات حصل على جائزة الواعدين في لجنة جوائز رئيس الجمهورية للآداب والفنون برئاسة مولانا دفع الله الحاج يوسف وزير التربية والتعليم يومئذ وكنت يومها سكرتيراً للجنة، دونت الحيثيات الرفيعة التي ساقها مولانا لتأييد ترسيخ واستحقاق ابراهيم للجائزة. أيضاً في الاحتفال بمقدم القرن الرابع عشر الهجري، كان ابراهيم وعالم عباس هما مندوبا لجنة الاحتفال لدارفور للحصول على المخططات والآثار الاسلامية، وكان يجهل ما حصلا عليه يمثل معظم معروضات المتحف، مما حدا بالدبلوماسيين العرب والمسلمين بالخرطوم، الى السؤال أن لماذا لا يبرز هذا التراث الاسلامي الرصين، فما كان من رئيس الجمهورية إلا أن أعلن في ذات المناسبة عن اتجاه السودان لتأسيس المتحف الإسلامي في السودان، هكذا فان ابراهيم سيظل رمزاً متواضعاً وحميماً من رموز التنوع الثقافي في السودان، وممثلاً لجماع الثقافة السودانية في منابع تكوينها الافريقية العربية الاسلامية والعالمية.