امال عباس في هذه الايام تتداخل اساسيات الامور في الاذهان.. وينشغل الكل بالاجواء المسيطرة.. اجواء الانتخابات.. وتصريحات المرشحين لرئاسة الجمهورية وللمجلس الوطني وللولايات.. تصريحات من عبارات مختلفة.. ورؤى متباينة.. يتم كل هذا وسط مشاكسات الشريكين الحركة والمؤتمر الوطني.. اللذين تحكمهما اتفاقية نيفاشا المحمية والموقعة تحت رعاية المجتمع الدولي.. ويتم كل هذا مع اسقاطات مشكلة او بالاصح قضية دارفور التي استعصت على الحل.. والتي رمت بالوطن.. داخل دائرة الاتهامات الخطرة وملاحقة الجنائية. ٭ عندما اريد ان اعمر هذا اللقاء بيني وبينكم تتراص امامي الموضوعات الساخنة والمهمة.. وتتخذ في التباري بأن تأخذ الفرصة في هذا اللقاء الاسبوعي.. وانا انظر اليها في عدالة وشفقة.. عدالة تقتضيها صعوبة المرحلة ، وشفقة تفرضها كل الظروف المحيطة. ٭ كتبت العنوان واردت ان اتحدث عن صعوبة الانتخابات.. وطريقة الاقتراع وصراعات المرشحين من الحزب الواحد.. زارتني احدى الطالبات من جامعة الخرطوم وهي تعد بحث التخرج طالبة بعض المعلومات حول دور المرأة السودانية في السياسة.. تحدثنا طويلا.. وساقنا الحديث الى موضوع الهوية والتراث.. وتشعب الموضوع وطلبت مني ان اناقش موضوع الهوية فهو المدخل الحقيقي لحل كل قضايا الوطن. فغيرت الموضوع الاول وبدأت في الحديث عن السودان اللوحة. ٭ تحدثنا عن الهوية السودانية وعناصر التراث التاريخي والثقافي التي جعلت من تحديد الهوية موضوعا متجددا.. يتجدد على الدوام كلما جاء حديث عن هذا الوطن اللوحة الجميلة.. وكلما حاولت جماعة او اصوات ان تجعلها من لون واحد او لونين. ٭ عموما ما دار بيننا فجر السؤال الذي هو اصله متفجر ومنساب لاسيما هذه الايام ونحن نتحدث عن ثقافة السلام.. وبالطبع ثقافة السلام لا تقاس الا في مناخ سلام حقيقي يقوم اساسا على احترام الواقع والتعامل معه بمقتضى مكوناته الحقيقية ومن ضمن ما تذكرت تلك المساجلة الطويلة التي تمت في صحيفة «اخر خبر» في مايو عام 1995 وكانت المساجلة بعنوان «الوطن اللوحة». ٭ كان الاخ نقيب وقتها محمد علي عبد الجابر جاءني «بخاطرة» عن تجربة تمازج حضاري وثقافي في بقعة عزيزة من بقاع السودان الجميلة.. واحتفيت بالخاطرة ولاقت هوى في نفسي.. كانت تحكي عن حيوية العلاقات ما بين قبائل السودان.. عن الشكرية والبطاحين ووساطة الجعليين بينهمها. ٭ ودفعت بما جاءني الى المطبعة ووقفت مع نفسي اتأمل عظمة هذا الوطن اللوحة محمد علي من اصل نوبي «حلفاوي» يتحدث عن اشعار الشكرية والبطاحين وفرسان الجعليين. ٭ زعيم قبيلة عمارة دنقس وزعيم قبيلة عبد الله جماع تحالفا في فترة تاريخية حاسمة وحرجة وكانت السلطنة الزرقاء التي امتدت طويلا 1504 1821 ما يقارب الثلاثة قرون وربع. ٭ وعندها يجوز لنا تاريخيا ان نقول اسلام السودان وتعريبه لم يتم على ايدي العرب الوافدين وانما تم على ايدي المستعربين عمارة دنقس وعبد الله جماع في ظل دولة هي دولة الفونج... فلنطالع معا قصيدة العودة الى سنار لمحمد عبد الحي ونعيد قراءة كتاب طبقات ود ضيف الله. ٭ وعلى الدوام ظل الحديث والمناقشة حول هذه المسألة.. هل السودان عربي مسلم؟ هل هو زنجي مسيحي او وثني؟ هل هو مزيج من العروبة والزنوجة؟ يدين بالمسيحية والاسلام والوثنية ومعتقدات عبر عنها الادب في مدارس واتجاهات ادبية واضحة. ٭ يقول دكتور هدارة في كتابه تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان الذي اصدره عام 1972 «ولست احاول في هذه المقدمة اثبات العروبة الخالصة للسودان او تأثره بجارته مصر وحدها بينما يجاوز الحبشة وكينيا ويوغنده والكنغو وافريقيا الوسطى وتشاد وليبيا في الوقت ذاته، ولكن غاية ما اريد الوصول اليه ان الاعراق العربية قديمة في السودان وان دور مصر الحضاري الذي يفوق حضارات الجيران الاخرين، كان بلا شك اقوى تأثيرا في الفكر السوداني واشد ارتباطا به.. وما اصدق محمد أحمد محجوب حين قال: سودان اليوم تراث اجيال متعاقبة من الوراثة والاختلاط والتفاعل.. فلا سبيل اذن الى تغليب عنصر من العناصر على الآخر من ناحية الجنس او الوراثة او التأثير الحضاري.. الا ان يكون شيئا ظاهرا لا يمكن انكاره مثل التأثير العربي والاسلامي والمصري. ٭ ومن ناحية اخرى وحول تأثير مناقشات الهوية السودانية على دوائر الابداع، يقول الاستاذ عبد الهادي الصديق في كتابه اتجاهات الشعر السوداني المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية: اتجاه الغابة والصحراء نشأ هذا الاتجاه لوعاء تجمعت فيه بعض التيارات الرافضة لمبدأ التسليم للحصار الاجتماعي «موضوعيا» ومبدأ التسليم بالتبعية لمقاييس الشعر العربي الجمالية والموروثة فنيا، لقد رأى هذا الاتجاه الشعر السوداني يسير في طريق مسدود وان الخلاص يتمثل في العودة الى قدرات المكان الحضاري السوداني الزاخر بالعطاء.. فهناك جذور عميقة تخطاها التناول الشعري وهناك لغة الشعر لم يستطع اللسان العربي ان ينطق بها وهي لغة الوجدان ولذلك كان اتجاه الغابة والصحراء محاولة دارت داخل مفهوم العودة الى الجذور والبحث عن الاصول المدفونة ومثل هذه الدعوة لها شبيهات في مجالات الشعر العربي الاخرى فهناك الدعوة الفينيقية في لبنان والدعوة الفرعونية في مصر كما ان هناك الدعوة للعودة الى صدر القارة الام التي قادها مثقفو الولاياتالمتحدةالامريكية من الملونين.. وفي المجال العالمي كانت هناك مدرسة الكتدلكة الجديدة والدعوة للعودة الى صدر الكنيسة الام التي قادها ت. س. اليوت. ٭ والغابة والصحراء اسم يرمز للملامح المتفردة للامة السودانية «العروبة والافريقية» وقد عاد الشاعر الى تلك الامكانات ليبحث فيها عن صور اكثر صدقا.. اعتقادا بانها اكثر قربا من وجدان الانسان السوداني فكثرت في اشعارهم صورة المصحف والعباءة والمسبحة والعمامة والابريق ومن جهة مقابلة صورة التسامح والابنوس والطبل. سبع حمائم سيل عمائم نحل في البرية هائم ٭ موكب وعد وموكب امكانات امتنا.. وبالفعل النقاء العرقي غير موجود بالنسبة لصناع الحضارات عبر التاريخ ذلك لان الحضارات والثقافات العريقة تأتي وليدة نماذج ثقافي وعرقي بين الشعوب ذات الاصول العرقية المختلفة وذات العقائد المختلفة حتى وان كانت في مساحة جغرافية واحدة. ٭ تأملت هذا الوطن اللوحة.. السودان بغاباته وامطاره ورعوده بصحاريه ورماله الزاحفة.. بانهاره وبحاره.. سهوله ومرتفعاته.. وعشقت اكثر الشعب السيمفونية.. ثقافة جنوبه الثرة وحكمة شماله الممتدة وعراقة شرقه المعتقة واصالة غربه الغائصة في الاعماق وقدرة اواسطه على احتضان كل هذا. ٭ شمخت امامي حضارة التمازج الثقافي والحضاري والعرقي المآذن والكنائس الكجور.. التراب.. الحربة.. الرطانة.. الهدندوة.. البجة.. المحس.. النوبة والجعليين.. الفور.. الدينكا.. الشلك.. النوير.. الانقسنا.. القمر.. البني عامر.. الشايقية.. الكواهلة.. الشكرية.. البطاحين.. ما اعظم هذا الشعب. وكانت يومها مساجلات ثرة ليتها تتواصل في هذه الاونة التي تشهد تصاعدا في مناقشات الهوية والسلام الاجتماعي.. السلام الذي يتعثر الوصول اليه وسط الآراء ذات البعد الواحد.. ووسط التعصبات العمياء والضيقة للقبيلة والجهة.