وكلما غصنا في اشعار ود الرضي نلمح واضحا الاثر الديني للتنشئة الدينية من خلال المعنى العام للقصيدة، ومن خلال الالفاظ والجمل. مثل: لو بي مرادي الرب يجود.. نذرا على ركعة وسجود وكذلك: اشكو ليك اياما عدن الامان يا جنة عدن وايضاً: الهي الهي امحي لي عسر واكتب له بما يرضيك ويسر وما خليل فرح ببعيد عن هذا العمق الديني حين يقول: اصبحنا بالله الكريم واتحصنا من جور كل ريم وتكثر النماذج التي توضح اثر التنشئة الدينية على نص الحقيبة، ولكن على سبيل المثال لا الحصر نورد الامثلة التالية: يقول محمد بشير عتيق: لبيك اللهم لبيك ... لك الملك وحدك لا شريك الامور والروح بين يديك ... إياك ندعو ونهتديك ويقول سيد عبد العزيز: سبحان من نشاك حسنه في غاية الكمال ويقول صالح عبد السيد ابو صلاح: ملك سبحان من سواه. والى قول خليل فرح: سبحان من خلقك وأولانا فيك فنون. وايمان محمد علي الامين العميق في قوله: المقدر لا بد يكون. فكل هذه الاشعار تجاوزت المفردة البسيطة الى المعنى الارحب الذي يدل على التمسك بالقيم الدينية والتنشئة بصفات الاسلام. وليس بعيدا عن التنشئة الدينية، فالمجتمع السوداني بما يحمله من تقاليد وقيم وأعراف مجتمعية شكل بالضرورة أحد المصادر المعرفية لإنسان الحقيبة، وليس من الصعب التدليل على ذلك، فكل قصيدة تدعو في باطنها إلى التراحم والتكاتف ونبذ الخلاف، والإعجاب بالصفات البشرية الطيبة، ويسري في اوصال كل قصيدة وصف المجتمع النابض بالخير المتبادل للمنفعة في عدل، فإذا ما ظلم الشاعر محمد علي عبد الله الأمي فإنه يكتب مباشرة للحاكم العادل: يا حاكم البلاد رحماك قليل انفكر شوف الكون عموم ضل صفاه اتعكر إرهاب التجار في قلوبنا جلس واتحكر يوم بالبن ويوم بالشاي يوم بالسكر ولنتأمل في قصيدة عبيد عبد الرحمن: نحن سودانية أصلاً لا نلوم ولا نلاوم نحن دائرة العلاقة ننسجم فيها ونداوم نحن أبداً في حقولنا لا نساوي ولا نساوم نحن نعرف كيف نقاوي لآخر الأنفاس نقاوم وتجود قريحة شعراء الحقيبة من الاشعار التي توضح اثر المجتمع وقيمه وارثه عليهم، لا غرو أن هذه القيم مستمدة من سماحة الإسلام، فجبل عليها الشعب ومارسها ودعا اليها، فاذا ما أردنا البحث عن الشجاعة.. فلننظر الى قول البنا: يوم المعركة الفي سماها استلوا سيوفها ورماها برز اخوكم يا ام سماحه والخيل صداهن قماحه أب قلبا فيه الحراره اب عينا حمرة وشراره واذا اردنا العفة والحياء فعلينا بقول ود الرضي: عفتها الخالده التليده من قديم ماها التليده شوفه تفصد في ايابه غاضه ذي الفل ثيابه وليست العادات السودانية ببعيدة عن انسان الحقيبة، بدءاً من السيرة نحو النيل بكل ما تحمل من اهازيج وزغاريد، وبما تعنيه من «جرايد النخل» على ايدي العريس، مع الخرزة والحرير، وانتهاءً بالشلوخ والوشم. انا حبيت خدودك حبيت الفصاده وبرضي كمان بحبك لو خلوك ساده اضف الى كل ذلك الفطرة السليمة والمقدرة على الابداع والموهبة التي جعلت من انسان الحقيبة وبقليل من المصادر المعرفية، جعلت منه مبدعاً متميزاً فانجز هذا الابداع «حقيبة الفن». وبالدراسة المتأنية لنص الحقيبة، نجد ان ثمة افكاراً قد دفعت باتجاه ان يكتمل النص شكلا ومعنى، ولكل نص شعري فكرة داخلية تحقق كيفياته كأن يكون فصيحاً او عاميا، مقفيً او حراً، ولكن ما اقصده الفكرة التي سيطرت على الكاتب باعتبارها هاجساً مما جعله يفكر في تسطير نص يعبر عنها واسميها هنا للتمييز «الفكرة الملهمة». فها هي فكرة الانقلاب والتحول المجتمعي للقيم تؤرق شاعرنا ابراهيم العبادي، فتولد في داخله الرغبة على الكتابة، وتمنحه الإلهام لمزيدٍ من الأفكار الداخلية التي تحقق للنص وجوده، فتجثو على السطح فكرة البكاء على الماضي في أسلوب تمجيده وبعث الأشواق للعودة اليه فيكتب: يا حليل زمان بنت البلد نظراته كان توهي الجلد زياً جديد بينا اتولد... تحلف تقول البت ولد ويكتب في ذلك العمرابي: غلطان ابو البت والولد... من يومه ما ربى وجلد ولو كان حزم امره وصلد... ما خلوا عادات البلد فتختلف الفكرة الداخلية للنص من التغني بالماضي الى الملام، مع الاحتفاظ بالفكرة الملهمة الاولى، وهي الانقلاب والتحولات في القيم المجتمعية. ولا يجد الباحث كثير عناء في التدليل على المصادر التي استقى منها شعراء الحقيبة أفكار النصوص الشعرية، لكن امعاناً في التسهيل وجب تحديد بعض المصادر الفكرية، ومن ثم تبيان امثلتها وهي كالآتي: - الوطنية وحب الوطن. - المشاركة الاجتماعية والانفعال بقضايا المجتمع الآتية: - الغزل وهو على ثلاث مراحل زمنية: 1- الغزل الممنوع. 2- الغزل شبه المباح. 3- الغزل الصريح. - التاريخ ومآثره وشخوصه - وصف جمال الطبيعة والبيئة. وتحمل هذه الأفكار تبعات لتحقيقها في ما يمكن ان نسميه بالاساليب «كالفخر والرثاء والتشبيه والمدح الخ...» فعن الوطن والوطنية تتلازم فكرة الوطنية مع اسلوب الفخر عادةً، مفرزة عدداً من الاشعار، منها ما قاله محمد بشير عتيق. أهواك يا بلادي ارويك بدمائي وافديك بي سوادي ثم تتوالى الروائع: يا عازة، نحن ونحن الشرف الباذخ، ام درمان، وطن الجدود، ربوع امدر، والكتير والكثير من الاغنيات. وينفعل شعراء الحقيبة بالمجتمع وقضاياه، فما أن يتم افتتاح الخط النهري بالنيل الابيض حتى يكتب ود الرضي «من الاسكلا وحلَّ» في وصف دقيق لكافة محطات الخط النهري، وما ان تدخل عربات الفيات السودان حتى ينبري العبادي لكتابة قصيدته: «سايق الفيات» ثم تعبر الروح الملهمة لإنسان الحقيبة عن الجميل والمدهش، وتنفتح بذلك صفحة الغزل الشفيف بمداخله المختلفة باختلاف التحول المجتمعي والزمان، ويلجأ الشعراء إلى وصف الطبيعة وتشبيه المحبوب بها، فتأتي أغنيات مثل: ظبي الخدر، ظبية المسالمة، غزال البر، ست البيت. وتمضي مرحلة زمنية فتختل موازين الغزل وتمضي نحو الانفتاح، فيتغزل الشاعر بالأم والزوجة والمعلمة: شوف المعلمات وأروحهن حمامه ماسكات النفوس مالكات لي زمامها وتتغير الاسباب فيكتب الشاعر بصريح العبارة: الشعر أسود زي سواد الليل والجبيه عالي طبعو خصرو نحيل والقوام ممشوق في مشيتها وحيل والصدير طامح علمني سهر الليل ثم يتمدد التاريخ في نفس الشاعر، فيكتب عن لحظاته وشخصياته مثل المهدي والمك نمر وغيرهم فيكتب الجاغريو: رقد ناظر القبائل ولى المكارم هده باب الجنة منو انشاء الله ما يسنده ويمدح سيد عبد العزيز الإمام عبد الرحمن المهدي فيقول: وحيد النيل يا نيل البعاد وقراب رجل الموقفين الأمة والمحراب وكذلك يلجأ شاعر الحقيبة الى الطبيعة باعتبارها فكرة مسيطرة، فيوصفها ويعبر عن حبها، ولقد مثل النيل أحد معالم الطبيعة السودانية، فمجده انسان الحقيبة مثل ما قاله خليل فرح: يا نيلنا يا نيل الحيا حياك حياك الحيا يا نيلنا يا أب ما زلال يا اب شامه في صدرك هلال وكذلك وصف شعراء الحقيبة الامكنة والمدن والارياف كملامح طبيعية وحضارية، وحظيت ام درمان بغالبية الوصف والتمجيد، فكثرت أغنياتها، على أن شكلاً من التعبير الشعري لا يجد الباحث له متسعا من الوصف ولا التحديد، فلا هو المصدر المعرفي ولا الفكري، بل هو اقرب للرياء الاجتماعي ومدح الزعماء ومن هم في علياء الامر، كأن يقول ود سوركتي في المهدي: على نجم الكون قد فاقت أنجمك أو أن يقول الجاغريو في زعيم لم يحضر أوانه: رحل الحاج وكفه كان محالف المده آسف ما حضرتك ولى منك مدة فلا هو بالوصف الراهن من الفضائل، ولا هو بالمدح الموضوعي لصفات شخصية اجتماعية.