دهشة لم تكن هذه هي زيارتي الاولى للجزائر ولكنها كانت اكتشافي لمقدرة تلك الحاضرة على تجديد مداخل ادهاشها وتنويع مخارج ابهارها الجميل .. كل شيء هناك قادر على تذكيرك - مهما كنت مشغول البال ? بالثورة والنضال والتحرير والشهادة . العلم المزروع على سقف كل بيت وفي زاوية كل شارع كأنه جزء من كل شيء. وجوه شهداء الثورة الجزائرية المنتشرة كأنها الأقمار في تمام اكتمالها … الشوارع المسماة بأسماء اولئك المناضلين .. انه حصار الثورة البديع القادر على انتزاعك من رهق السعي العبثي وراء تفاصيل الحياة لتشع روحك بذلك الصفاء اذ يشعل الصادقون أرواحهم قناديلا تضيء لأممهم طريق المستقبل. اخضرار وكثيرا ما تسائلت وأنا أمر على طرقات الجزائر العاصمة وعبق النضال يملأ رئتي بهواء نقي _ لماذا اصر الفرنسيون على البقاء هكذا لأكثر من مائة وثلاثين عاما ؟؟ ولماذا كان قدر الجزائر ان تقدم مهر حريتها مليونا ونصف المليون من خيرة ابنائها وبناتها حتى تنال استقلالها في 5/7/1962 ؟؟اجابات كثيرة قرأتها في كتب التاريخ وكلها واقع تشهد به سنوات النضال الطويلة لكنني اظن ان الجمال ايضا كان سببا !!نعم هو الجمال في كامل تجلياته.. الخضرة التي قل مثيلها على الأقل في المناطق التي زرتها... الجبال المكسوة بالسنديان والبلوط وأشجار البان العالية .. بدائية الخضرة في اصرارها على الحياة بين الحجر والحجر في شرفات المنازل في كل مكان تقريبا .. البحر الذي يضرب شاطئها بين كل ثانية وثانية وكانه يرفع قبعته و ينحني سلاما للمدينة الثائرة .. الورد الملون المتعلق بجدران البيوت العالية.. العمارات البيضاء ذات النوافذ الزرقاء وسط المدينة .. اشجار الفواكه المطلة من كل بيت .. المناخ المدهش الرطيب كلها مغريات جعلت الرحيل صعبا على المستعمر من هذه الجنة الارضية البديعة ولكن أهل الدار كانوا اكثر محبة وأشد انتماءا وأقوى ايمانا بترابهم فقدموا أطول قائمة شهداء تخطها أمة لاستقلالها!! شعر عكاظية الجزائر للشعر العربي لم تكن بعيدة عن هذه الفضاءات الباهرة إذ انعقدت لهذا العام وهو عامها الرابع تحت شعار ( الشعر وثقافة المقاومة ) في الفترة من 8-12 مايو متزامنة مع ذكرى مجازر 8 مايو الجزائرية والتي راح ضخيتها 45 الف شهيد وكذلك مع ختام فعاليات القدس عاصمة للثقافة العربية تنوعت الاصوات الشعرية المشاركة من معظم الدول العربية اكثر من سبعة وعشرين شاعرا وشاعرة وناقدا وناقدة مثلوا مختلف التيارات الشعرية وافتقد منبر العكاظية وأروقتهاهذا العام الشاعر الجزائري الكبير الراحل عمر البرناوي الذي رحل قبل اشهر قصيرة قصيدة عندما سلمنا برنامج العكاظية وجدت ان قراءتي ستكون في حفل الافتتاح الرسمي بقاعة الموقار فحددت القصيدة التي سألقيها ذلك المساء .. وأنا اقلب تلك الاوراق الخاصة بالاحتفال وقعت يدي على مفكرة مهداة من وزارة المجاهدين لكل المشاركين ورغم ادعائي معرفة الكثير عن الثورة الجزائرية الا أنني بهرت تماما بأن كل يوم في العام هو ذكرى لإعدام مناضل أو سجن زعيم ثوري أو قتل متظاهرين أو ثورة مدينة او قرية في الجزائر ..الى آخر تلك القائمة الطويلة النبيلة الجميلة لسيرة الثورة الجزائرية. اقشعر قلبي وأنا اقلب صفحات تلك المفكرة كيف يستحيل العام بأكمله الى أعراس للنضال والإباء !! فكتبت نصا مطولا اجتزيء منه هنا طعم هذا الهواء البهيج مزيج من الحب والحب مزيج من العشق والعشق من الرائعين الالى كتبوا بالماء على الافق هذا الجمال ! جزائر يا أرض من آمنوا بالنضال فماتوا وقوفا بأرض النضال! جزائر يا أرض من قدسوا أرضهم سقوها دماءا فأينع نخل الإباء وطال جزائر يا قبلة العاشقين ويا خندق الثائرين ويا وجهة الكبرياء الذي ضل حتى رأى وجهك اليعربي فألقى عصا الارتحال وهنا أهدي هذا المقطع الاخير لأستاذي العلامة عبد الملك مرتاض والذي استعادنيه اثناء القائي له ولكني لم اسمعه فهاانذي اكتبه من أجلك هنا استاذي الكريم ! مصر!! لم يكن مفاجئا لي ذلك القدر العالي من الحب الذي يكنه الجزائريون للسودان وللسوانيين ولكن الذي لفت نظري هو حضور اسم ام درمان الدائم ووصفها بالفال السمح وبقية من انفعال الشارع العام بالمباراة المشهورة بين مصر والجزائر في ام درمان وورود عبارة ملحمة ام درمان اكثر من مرة بالصفحات الرياضية رغم مرور اشهر على تلك المباراة علق أحد الصحفيين الجزائريين على الإحتفاء والتصفيق والزعاريد التي صاحبت تقديمي في جلسة الافتتاح بأنها لمسة وفاء للشعب السوداني واختتم بقوله ( من قال انه لا توجد علاقة بين الرياضة والثقافة )؟؟ ومع تحفظي على التعليق ورأي في الشطط والتعصب الرياضي الا انني اعترف باكتشافي لزوايا اخرى لم انتبه لها من قبل طال الجدال بيني وبين زوجي وسائق التاكسي الجزائري المثقف حول بعض تلك الظلال والنشيد الوطني الجزائري يمثل شاهدا رئيسيا في الحوار فرمز الثورة وروحها من كلمات مفدي زكريا الشاعر والمناضل الجزائرى ومن ألحان الموسيقار المصري محمد فوزي في شراكة مصرية جزائرية ثائرة ستبقى وشما لا يقبل الإزالة على كل الذواكر وفي مقامات السموالأنقى كلما عزف ذلك النشيد القوي !! وعندما وصلنا الى وجهتنا ودعنا السائق ببيتي التجاني يوسف بشير طبع مصر تقصيا ونشاطا لو دهى الصخر داهم منه أورى كيف يا قومنا نباعد من فكرين شدا وساندا البعض ازرا رافضا الأجر السخي الذي دفعه له زوجي مقسما أنه لن يأخذ أجرة من سوداني !! خليدة وزيرة الثقافة الجزائرية السيدة الوارفة الجميلة خليدة تومي وجه مشرق وروح مشعة بالثورة والأمل .. تحضر فيتحفز المكان حيوية وألقا وبهاء .. وزارتها خلية نحل دائبة الحركة والمناشط .. مؤمنة بقيمة الثقافة في حياة الامم والشعوب. كنت بجوارها في حفل العشاء الذي دعت له ضيوف العكاظية وقُدمت فيه اطباق جزائرية فكانت تشرح لي طريقة طبخ كل طبق بدقة فداعبتها قائلة يبدو ان السيدة الوزيرة طباخه ماهرة ... قالت لي بل وزيرة البحث العلمي اكثر مني مهارة - وقد كانت حاضرة ? وبين قفشات ايهن اكثر مهارة في الطبخ تحدثت عن ذلك الجيل الذي يتم فيه اعداد الفتيات ليصبحن ربات منازل ماهرات وتعليم الطبخ بالطبع ركن اساسي في هذا الاعداد الا انهن تجاوزن مهارة طبخ الطعام الى مهارة طبخ كل شيء بما في ذلك السياسة !! إعجاب في ذات مجلس عشاء وزيرة الثقافة كان هناك وزير المجاهدين ووزير الموارد المائية ورئيس المجلس الأعلى للغة العربية ووزيرة البحث العلمي ووزيرةالشئون الاجتماعية نوارة جعفر .. وهي اعلامية سابقة ومشهورة في بلادها حدثتني عن الاستاذة سامية احمد محمد نائبة رئيس المجلس الوطني بكثير من المحبة والاعجاب .. متحدثة عن عمقها وعن فلسفتها وعن اهتمامها بالقضايا القومية والوطنية وقالت لي لو كان لدينا في كل بلد عربي امرأة مثلها لأحدثنا تغييرا كبيرا.. وحملتني مئات التحايا اليها.. ألا هل بلغت ... اللهم فأشهد ندوة السودان شكل حضورا آخر ممثلا في المشاركة الرصينة للدكتور الصديق عمر الصديق مدير مركز عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم والذي قدم ورقة في اطار محور القصيدة المقاومة واختار ابا الطيب المتنبي نموذجا للمقاربة التراثية العصرية التي كانت روح وعنوان الورقة الموسومة ب ( جماليات القصيدة المقاومة في التراث العربي .. المتنبي نموذجا ) . وقد حظيت ورقة الدكتور الصديق بكثير من المداخلات المميزة من الجمهور المنتقى الذي شهد تلك الاصبوحة النقدية المميزة بقاعة الاطلسي قريبا من شاطيء الأطلسي والتي ضمت الى جانبه كلا من الدكتور الشاعرصلاح يوسف من فلسطين .. الدكتور عبد الله عشي من الجزائر والدكتور عبد الوهاب الميراوي من الجزائر والدكتورة جانغ هونغ يي من الصين وقد أجريت معها حوارا للاذاعة السودانية حدثتني فيه عن عشقها للعربية وتسمية نفسها زهيرة زينب ختام الاستسلام لاخضرار الجزائر وثورتها ونضالها يبعث في النفس ذلك الشعور العميق بالامل وبالحياة والقيم العالية التي ستبقى حية ما بقيت على الارض حياة اصوات شعرية عديدة منحت المهرجان بهاءه واخرى عبرت ولم تترك اثرا وبين هذا وذاك يبقى لمشاركة الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد ذلك الوهج والحضور الطاغي الذي ظل ملازما للرجل وهو يخطو واثقا نحو عامه الثمانين!!! وقد أجريت معه حوارا مطولا للإذاعة السودانية سيبث عبر سهرة منازل القمر ويبقى القول ان الثقافة ستبقى ابدا جسرا للتواصل الحقيقي الذي من شأنه أن يعيد الثقة المبددة على طرقات السياسة وأهلها.