صاد صدئة مترهلة كهرة مترفة، فاء تنظر دائرتها باشمئزاز ونفور الى نقطتها المُحَلِّقة فوقها في عقوق، ثم راء هزيلة ملصقة بالفاء كطفل لقيط «صفرٌ» مثل ضفدع يجاهد كيما يغادر بركته الكائنة بمستطيل قابع بنتيجة الامتحان النهائي. كان الضفدع الصفري ينق نقيقا ثوريا.. قَفَّ له شعر الدرجات الباهرة المتاخمة لمستنقعه.. مادة الجغرافية.. صفر مستنقع ونقيق ذياك الأصيل كان حلوا وممتلئاً كفاكهة المانجو.. دافئاً كحليب ما قبل المنام.. «عامرٌ» وأنا وثلاثة آخرون دعانا استاذ مصطفى مدرس مادة الجغرافيا كي نساعده في تشذيب منزله وتهذيبه.. سعداء كنا باصطفاء الأستاذ لنا، اذ ان اصطفاء مثل الذي حبينا به يعني اعفاءنا من ضرب ممض، وصفع مهين والفاظ قوارص.. وذهبنا ثمة... «عامرٌ» كان سحابة تنثال جزلاً.. مهراً مدللاً يتقد في جبينه مجد مؤثل، وتشع من عينيه شموس وضاء.. كانت خطواته تصلح ما أفسده القِدَم من غضون الجدران الشمطاء.. كان يدلق علينا دلواً من غضون الجدران الشمطاء.. كان يدلق علينا دلواً تلو دلو من نهر الضحك المترقرق في باطنه.. المنزل الأحدب استقامت قناته عندما سرى فيها إكسير ضحكه السامي.. تأخر الأستاذ... أم ترانا بكرنا في المجيء.. قال سالم: النهر قريب ماذا لو ذهبنا هناك.. قال عامر: جيد فلنذهب.. ولنمض وقتا زاهياً ريثما يعود الاستاذ كم احب النهر .. هيا.. هيا.. هذا يوم وضيء.. انفجرت من قيثارة فم عامر ضروب من صفير عادت بعده باحة المنزل وكناً للعصافير.. كنا نحب النهر حباً محرماً.. ان تحب النهر جريمة كبرى «تكون عقوبة مجترحها جليلة» دونها سرقة المنازل، وشرب سيجارة بمرأى من جناب الوالدين. الذاهب للنيل منا كالذاهب للماخور.. النيل عند اهلنا نيلان.. نيل دميم كخيال المآتة.. يشرعونه في وجه طيور تطلعنا وحبنا النيلي.. ونيل آخر يتداولون حبه فيما بينهم.. يضنون به على غير أهله ويقفون مطى حبهم دهراً على أعتاب حسنه ينشدون ترانيم التدله والفخار.. النيل عندهم انثى مجدولة من زبد البحر.. وظئر رؤوم تلقم ثديها لكبار الناس دون صغارهم.. وللزرع وللثرى.. ترضعهم حليبا سائغا لا فصال يعتري إرضاعها ولا فطام... يجري النيل من جنوب مدحهم محمولاً على كاهل إعظامهم الى شمال قدحهم وإزرائهم. سلكنا طريقنا الى النيل.. تحدق بنا الرهبة خشية أن يرانا أحدهم.. فيشي بنا إلى أهلنا.. فتصكنا البوائق وينالنا صوت العذاب.. كان النهر يخب ويعدو صوبنا.. كأنما يريد أن يخبرنا شيئاً مهماً.. ولكن الشاطئ يحول دونه وما يروم.. كما يفعل حجاب السلطان وجلاوزته. طفق أمير يلتهم طين البحر المتيبس ملتذا بها التذاذه بالتهام الواح الشيكولاتة.. «سالم» خذ تذوق هذا طعام جيد لا يتاح الا لابناء الرفاه لا.. لا نحِّ طعامك عني.. اتحسبني دودا أيها الحقير.. عامر كان نيلا من حبور، وجذوة قدسية السَّنا.. كان محبا للنيل حبا طفوليا يافعا.. عميقا وعذبا وغامضا كطلاسم الكهوف. له منة علىَّ لا أفي باداء حقها.. إذ علمت منه ان الزيت بامكانه أن يلجم لسان «الغبش» الذي يسترشد اهلنا بوشايته على ارتكابنا جريمة الذهاب للنيل.. وله علىَّ منة اخرى، فهو الذي علمني الصيد حتى بذذته فيه، فما ذكر سمك «القرموط» الا مقروناً بحذقي.. كان القرموط، يتدافع صوب صنارتي تدافع الهموم على قلب النازح الغريب.. طعمي شهي ومغذٍ، وداعية فتنة شباب القراميط يرون في طعمي مائدة مباركة تكسب بدنهم القرموطي قوة وتماسكا ينالون بهما حظوة في أعين حسانهم.. النيل غارقٌ في أمواج تردده.. تلوح أمواجه مهرولة ثم تكبو كإبل أفزعها صليل أجراس قواصف.. مزاجه معتكر.. ولونه حائل.. على جبينه المتغضن مكتوب بخط الموج «لا مساس... لا مساس». «عامر» شمر عن أثوابه.. يريد أن يلج البهو النيلي.. حتى يدرك كنه ما أصاب صديقه.. فَيُسرِّي عنه.. ويمازحه حتى تنشق أمواجه عن ضحكة مائية.. صحنا بذعر: عامر احذر النهر.. نخاف عليك الغرق.. عامر.. عامر.. هذا أوان مجيء الأستاذ.. فلنذهب دعنا نذهب. قال لنا عامر: أيها الصغار الجبناء.. من منكم يعرف النيل مثلي انا ابن النيل وصفيه.. النيل يعرفني جيدا فهو يعرف احبابه.. وفجأة ساءت أخلاق النيل كأسوأ ما يكون.. فار تنوره ورمينا حبال أنظارنا الى عامر، فاذا هو دائرة نورية تغوص في باطن النيل.. وبعد برهة صك آذاننا صوت رنين الدينار الشمسي.. المعلق بكف الجهة الغربية وهو يرتطم بقاع النيل.. ترى هل كان هذا الدينار الشمسي ثمناً أخذه النيل جزاء ما فعل ب «عامر». أمير اُخْتُلِسَ عقله.. شاهدته مراراً وهو يحمل مطواة ينوي بها الثأر لعامر.. فما أن يشاهد ماء جدول أو مستنقع إلا ويطعن ماءهما في انتشاء هلامي عجيب.. نظر أبي بإشفاق إلى الضفدع الصفري الجاثم على صدر مستنقع مادة الجغرافيا.. كان الضفدع ينق نقيقاً ثورياً مخجلاً ورديئاً.. ألقى أبي النتيجة ثم غسل يديه جيداً.. صفر..