قدم هذا البحث في محاضرة بناءً على دعوة من معهد الدراسات الإفريقية جامعة محمد الخامس «الرباط» المملكة المغربية، وقدم موجزاً لها في محاضرة بمجمع اللغة العربية. وقد نشرت في كتيب بجامعة الملك محمد الخامس في الرباط. ولعل أعظم من أسهم في نشر الطريقة التجانية في شمال السودان الداعية محمد المختار بن عبد الرحمن الشنقيطي، المعروف بمحمد بن العالية. ولد في تشيت في موريتانيا في نحو عام 1820، ونال قدراً من التعليم من أفراد أسرته عامة، ووالدته فاطمة العالية المتبحرة في العلوم الإسلامية خاصة. وكان أبو العالية كثير الأسفار وجمع بين الدعوة والتجارة فزار المدينة المنوَّرة عام 1847 وهناك نُصِّب مقدماً في الطريقة التجانية. ثم عاد إلى وطنه ومنه إلى تمبكتو وبرنو ووداي وأخيراً إلى السودان. وفي دارفور سلك على يده السلطان محمد الحسين (38-1873)، وفي مصر عمل سفيراً لسلطان الفور ثم عاد للسودان ثانية عام 1858. وزار أبو العاليةسواكن حيث أقام فيها لبضع سنوات، ومنها رحل إلى بربر في صحبة زين العابدين المغربي، وهناك أدخل جماعة من وجهاء المنطقة في الطريقة، منهم محمد الخير أستاذ الإمام المهدي، وأبو القاسم أحمد هاشم (ت. 1939) العالم الكبير، وبعض أبنائه وأخوته، وكذلك مدثر إبراهيم الحجاز (1855-1937) العالم المشهور الذي خدم الإمام المهدي وخليفته.(102) وفي منطقة شندي التي رحل إليها أبو العاليّة عام 1882 سلَّك عدداً من المريدين منهم أحمد الهُدَى، الذي نشر الطريقة في منطقة الشايقية. وعبر هؤلاء الدعاة انتشرت الطريقة.(103) وقد دخلت الطريقة التجانية في دارفور وكردفان بواسطة رجل الدين الهوساوي الشيخ عمر جنبو تلميذ الشيخ محمد الصغير بن علي، تلميذ مؤسس الطريقة. وتجول الشيخ عمر في كثير من أنحاء البلاد داعياً، ثم زار مصر والحجاز. وبعد سقوط دولة المهدية عاش في كنف سلطان الفور، علي دينار (1898-1916)، ثم رحل للأبيض عام 1908، ومن بعدها لأم درمان، ومات في الحجاز ودفن في مكة المكرَّمة.(104) دور السودان في التواصل الثقافي مع المغرب خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين تعزز موقف الثقافة الإسلامية في سودان وادي النيل، وينعكس ذلك جليَّاً في كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في سودان وادي النيل، الذي أرَّخ لهذه الفترة، وأكمل تأليفه في مطلع القرن التاسع عشر. ويؤرخ الكتاب لدور فئتين من العلماء والصوفيين في المجتمع: الفئة الأولى مشيخة علمية سنية، والثانية صوفية تربوية. كما يبيَّن الكتاب كيف غلب الفكر الديني السني ذو التوجه الصوفي على المجتمع، وكيف كان الترابط بين المنشطين وثيقاً حتى لم يعد ثمة فرق بين الوظيفتين، وصارت كلمة الفكي، وجمعها «فقرا»، تعني الفقيه الصوفي، وتبرز بشكل أكثر دلالة الدور الريادي الذي قاموا به في المجتمع.(105) بعد عملية التلاقح الثقافي الكبير للمعارف الإسلامية الوافدة من المشرق والمغرب، وغلبة التيار الأخير على المجتمع، كما أبنَّا، تجاوز السودان مرحلة التلقي ودخل مرحلة التكامل في علاقته مع المغرب. إذ ازدهرت فيه مراكز العلم والخلاوي وتجمعات الأسر الدينية الجاذبة للطلاب من خارج البلاد، خاصة من بلاد السودان الوسطى. وفي نفس الوقت كان المجتمع من عامة الناس يولي العلماء والصوفيين الوافدين مكانة رفيعة، وكان السلاطين والملوك يغدقون عليهم الهبات ويمنحونهم الإقطاعيات. وفي مثل هذا الجو تعززت مكانة الأسر الدينية في الداخل، وانتشر عطاء العلماء وما حققه الصوفيون من منجزات مما حباهم بها الله، خارج مجتمعاتهم التقليدية. وبدأت حركة تبادل معرفي وتوادد روحي بين الأسر الدينية قوامها «الفقرا» المتجولون wandering scholars، من علماء ومتصوفة، فقد مثَّل هؤلاء عماد شبكات التواصل بين هذه المراكز الدينية وغيرها.(106) ومما دعَّم شبكات التواصل هذه، الرحلات العلمية عبر طريق الحج الذي كانت قوافله تبدأ من الساقية الحمراء في أقصى المغرب، أو من نقاط أخرى في بلاد السودان الغربية. ازدادت أهمية هذا الطريق خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وصار وضع السودان مهماً فيه، وكان جُلَّ سالكي طريق السودان من الشنقيط الوافدين من المغرب الأقصى، والفولاني، والهوسا، والبرنو وغيرهم من شعوب بلاد السودان الغربي والأوسط. وعبر هؤلاء الحجيج انتقلت كثير من المعارف الإسلامية وتعاليم الطرق الصوفية خاصة. وكان كثير منهم يستقرون في طريق العودة في سودان وادي النيل. وللشناقيط صلة خاصة بحلقات الدرس ومعاهد العلم، ويدرسون مذهب الإمام مالك، كما دعموا، مع الهوسا والفولاني، تعاليم التجانية في السودان. وقد تنبَّه الباحثون، أخيراً، إلى أهمية هذه الفئة من «الفقرا» المتجولين، وحقيقة الأمر فإن حركة التواصل هذه التي تربط أواسط بلاد السودان بشرقه وغربه لم تجد العناية الكافية بعد، ولعل في مكتبات المملكة المغربية ما يكشف عنها، خاصة وأن هذه المكتبات حوت معلومات ثرَّة عن أول عالم متصوف خرج متجولاً من سودان وادي النيل حتى بلغ فاس، وكتبت عنه الكتب المغربية قبل أن تكتب عنه طبقات ود ضيف الله في السودان، كما كتب عن أستاذه الشيخ دفع الله بن الشيخ محمد أبو إدريس، وهو من أجلة العلماء والأولياء في عصره.(107) العلماء السودانيون في المغرب رغم أنه لم تقع في أيدينا من المصادر نماذج لعلماء سودانيين في المغرب، باستثناء نموذج واحد، فإن ما أثبتناه من تواصل يرجح وجوداً فاعلاً لعلماء سودانيين في المغرب، وإن لم يكشف عنه النقاب بعد، ويؤيد النموذج الذي بين أيدينا هذا الاحتمال. والفقيه الصوفي المقصود هنا هو الشيخ أبو العباس السيد أحمد بن محمد النوبي الخليل أبي عبد الله بن السيد بن الولي الكبير العارف الشهير أبي فَلحَة، إدريس الشريف الحسني القادري اليمني المالكي. ولد في حلفاية الملوك عام 1040/1630، وترعرع في أسرة اشتهرت بالعلم والدين. كان أبوه وخاله من أولياء الله الصالحين.(108) درس أحمد بن محمد اليمني في حلفاية الملوك، قبل أن ينتقل إلى أربجي الواقعة على شاطئ النيل الأزرق الغربي. وفي أربجي، العاصمة الجنوبية لمشيخة العبداللاَّب والمركز العلمي المشهور، نهل المعارف على يد عدد من المشايخ على رأسهم الشيخ دفع الله بن محمد العركي، المشهور بالمصوبن، وسلك الطريقة القادرية عليه. وقد تُرجم للشيخ دفع الله في الكتاب المغربي نثر المثاني لمحمد بن الطيب القادري والذي استقى معلوماته من الشيخ الحلبي العالم السوري الذي نقلها بإسناد للشيخ أحمد بن محمد اليمني، وكان الأخير قضى وقتاً طويلاً في المغرب. كما ترجم له محمد بن ضيف الله في كتاب الطبقات،(109) وقد تعرضنا لما ذكره ابن ضيف الله عن الشيخ دفع الله من قبل. ويتفق المصدران في جُلَّ ما عرف عن الشيخ دفع الله وإن اختلفا في مكان سكناه: نثر المثاني أسكنه في أربجي، في حين تحدد الطبقات سكنه بأبي حراز، وهي لا تبعد كثيراً في الواقع عن أربجي، وقد توفي عام (1094/2-1633). انقطع الشيخ دفع الله لتدريس القرآن والعلم وإرشاد المريدين وتربيتهم؛ شيمته الورع والزهد والعبادة والانقطاع إلى الله تعالى. وروي عن الشيخ إدريس ود الأرباب أن «درجات الأولياء ثلاث: عليا ووسطى وصغرى، فالصغرى أن يطير في الهواء ويمشي على ظهر الماء وينطق بالمغيبات، والوسطى أن يعطيه الله الدرجة الكونية إذا قال للشيء كن فيكون، وهذا مقام ولدي دفع الله». وقال أحد المغاربة ممن يسافر كثيراً أن الشيخ دفع الله من خير من رأى، ولم ير مثيلاً له من أقصى المغرب إلى مصر. وروى ابن ضيف الله أن أربعين من تلامذته بلغوا درجة القطبانية في العلم والدين والصلاح.(110) ولا يعرف شيء عن الطريق الذي اتبعه الشيخ اليمني حتى بلغ بلاد برنو، فلما بلغها توقف عند موقع أو تجمع ديني، أسمته المصادر المغربية كلينبار klinbar (أو كولونبارو kulunbaro) حيث يقيم الشيخ عبد الله البرناوي. كانت كلينبار واحدة من المراكز الدينية المهمة التي أزدهرت في بلاد برنو وقد تردد عليها عدد من العلماء الجوالة مثل محمد الجرمِيو الطارقي، والشيخ والدِدي الفلاني في مرحلة من تاريخها، وفي المرحلة الثانية الشيخ عبد الله البرناوي. ولا نعرف الكثير عن الشيخين الأوليين، إلا أن الشيخ محمد الجرمِيو ورد ذكره في إحدى روايات وداي كأستاذ لعبد الكريم بن جامع، العالم الجعلي، الذي نجح بدعم من زملائه في الإطاحة بمملكة التنجور وتأسيس سلطنة وداي. أما أسرة الدِدي فتلتقي في نسب فلاني واحد مع أسرة المصلح الكبير الشيخ دان فوديو. وقد نزح فرع البورنو وحقق نجاحاً علمياً ولأسباب معقدة لا داعي للخوض فيها، هجر العلماء كلينبار (أو كيمباردو) وأهملت كمركز ديني. وفي وقت لاحق قدم الشيخ عبد الله ومعه أربعون طالباً للسلطان علي بن عمر بن إدريس (في نحو منتصف القرن السابع عشر) وطلبوا موضعاً للإقامة، فمنحهم السلطان الموضع المهجور في كلينبار. وازدهرت كلينبار ثانية، وتوافد الطلاب والمريدون والعلماء عليها، ومنهم الشيخ اليمني الذي قدم عام 1671م.(111) ومع أن الشيخ عبد الله لم يتبحر في العلوم، فإنه قد سلك طريق الشيخ عبد القادر الجيلاني ونال حظوة وقبولاً شديداً عند مريديه. وكان العالم الجليل صاحب زاوية هير Air، الشيخ أحمد، المسمى الصادق بن أبي محمد أويس من بين أساتذته، ويروي أن الشيخ الصادق قد رحل إلي أربجي حيث درس على الشيخ دفع الله العركي، أستاذ الشيخ اليمني نفسه. ويرجح أنه كان متبحراً في دقائق شعائر الطريقة القادرية.(112) ولا غرابة أن لاحظ ترمنجهام وجود تشابه شديد بين ممارسات الطريقة القادرية في برنو، وما يطبق في السودان، وهو ما أبانته الوثائق المغربية حديثاً من وجود تواصل بين المنطقتين.(113) ويتضح ذلك التواصل في مؤلفات أحمد بن عبد الحي الحلبي (ت. 1120ه)،(114) وأحمد بن يعقوب الوّلالي (ت. 1128/1714)،(115) ومحمد بن أحمد مَسْنوي بن محمد بن أبي بكر الوّلعي (ولد 1072/ 1661).(116) وعليه فلا غرابة أن رحل أحمد اليمني للشيخ دفع الله وتتلمذ على يديه في أربجي وأخذ عنه الطريقة القادرية. ومن شيوخ اليمني العالم والصوفي أبو النجا فارس السَناَسِن، وكان يقدم السَنْسَن لضيوفه وهو نوع من الخبز.(117) وفي عام 1075/1666 غادر الشيخ أحمد أربجي في رحلة أخذته حتى بورنو وهير Air والمغرب.(118) وفي بورنو تتلمذ على الشيخ عبد الله البرناوي الذي اقترح عليه أن يزور فاس في المغرب الأقصى، وهي بالنسبة إليه «فاس الما وراها [ورائها] ناس» كما يتواتر لدى السودانيين كناية عن البعد المكاني ولرواج تصور عن بعدها في أقصى مغرب الدنيا عند «الفقرا» المتجولين، ورغم ذلك فإن فاس لم تكن مجهولة تماماً عندهم، فبعض المغاربة كانوا يعبرون السودان في طريقهم للحج وعند عودتهم منه، وكان بعض هؤلاء الحجيج يستقرون فيه للاستجمام، كما أن عدداً منهم يؤثر البقاء للدراسة أو التجارة، وقد ذكرنا أمثلة لذلك. وقد شجَّع قيام سلطنتي الفور ووداي هجرة وقدوم العلماء والمتصوفة من سودان وادي النيل، ومن بلاد السودان الغربية. ومع أن معلوماتنا عن هذه الهجرات ضئيلة، فإن الرحَّالة التركي أوليا شلبي قد أورد شيئاً عن ذلك، فذكر كيف أن طريق السودان كان مطروقاً وعامراً بالحركة في نحو عام 1670. كما ذكر الرحَّالة الألماني كرمب Krump عند زيارته لسنَّار أن بعض «الفقرا» وغيرهم وفدوا من البرنو وفزان، وأن بعضهم تابع رحلته من سنَّار إلى القاهرة.(119) وفي طريقه إلى فاس، توقف عند زاوية السيد أحمد الصادق بن محمد أويس في هير وتتلمذ عليه أيضاً. وصل أحمد اليمني إلى فاس عام 1079/1669 وبعد عشر سنين من الإقامة فيها قرر العودة إلى أستاذه عبد الله البرناوي، وفي الطريق علم باستشهاده عام 1088/1678 على يد الطوارق، فعاد القهقري إلى فاس، وبقى فيها حتى مماته عام 1113/1712.(120) وخلال هذه الفترة كان الشيخ أحمد كثير النشاط في المجالات العلمية عامة وفي المجتمع الصوفي خاصة. وكان ناشراً للطريقة القادرية وتعاليمها. وكان ذلك بمثابة همزة الوصل بين القادرية في سودان وادي النيل والمغرب . وقد وجد الشيخ اليمني ترحيباً كبيراً في فاس من مشايخ الجزولية والزروقية والشاذلية.(121) ويرجح المؤرخ الدكتور هاشم العلوي القاسمي أن للشيخ الصوفي أحمد اليمني دوراً كبيراً في تركيز تعاليم الطريقة القادرية بفاس وغيرها. ويقول في موضع آخر أن الأسرة القادرية (من الناحية السلالية) لم تسع لتأسيس زاوية قادرية منفصلة في نطاقها الصوفي عن الشاذلية والجزولية ولم تظهر الزاوية القادرية بفاس إلا بعد وفاة الشيخ أحمد اليمني.(122) وجاء في كتاب التقاط الدرر نقلاً عن مباحث الأنوار: «ثم أطلع الله تعالى الشيخ اليمني بأن ظهر للخلق إطلاع البدر فوق الأفق فضاءت به أركان ظلمات هذا المغرب، فلم يبق عالم ولا شريف ولا عامي إلا عرفه وتوسل به، وله من أحوال التوكل وسقوط خوف الخلق وهم الرزق ما يبهر العقول .. ثم قال وله دراية حسنة في علم الفقه فكان يخالط خليلاً وتوضيحه والمدوَّنة. وله تصرف في أحوال الخلق تصرفاً ظاهراً. ثم ذكر من كرماته ما هو أوضح من الشمس».(123) وأخذ علماء المغرب أخبار الشيخ عبد الله البرناوي من تلميذه أحمد اليمني فألَّف سراج الدين أحمد بن عبد الحي الحلبي ريحان القلوب فيما لصق الشيخ عبد الله البرناوي من أسرار الغيوب، ويرجح أنه اعتمد عليه اعتماداً كلياً. واستفاد منه عالم مكناس أبو العباس أحمد بن يعقوب الوّلالي (ت 1128/1714) في إعداد مباحث الأنوار، وكان الشيخ أحمد قد سلَّكه الطريق القادري، وحرر الشيخ الإمام محمد بن أحمد مَسْنوى بن محمد بن أبي بكر الدلحي (ولد 1072/1661) كتابه التعريف الشيخ أبي العباس أحمد اليمني، وقد صار مؤلف هذا الكتاب من أعظم علماء عصره.(124) ومما يلفت النظر أن الشيخ أحمد اليمني ظل طوال إقامته في فاس يتسلم بانتظام الأخبار عن البرنو وسودان وادي النيل ولكن لا يعرف أسلوبه في تحقيق ذلك.(125) ولعل أقل ما توصف به رحلة الشيخ أحمد اليمني أنها بيَّنت أحد طرق التواصل بين سودان وادي النيل والمغرب والأقصى وكشفت عن تماثل النشاط العلمي والصوفي في المنطقتين، وأبانت ضرورة إجراء بحوث أكثر في المكتبات المغربية لإثراء معرفتنا. الأثر المغاربي في السودان في القرن التاسع عشر الميلادي