«اختر شريك حياتك من صفوة المجتمع ومن أول زيارة.. لدينا مهندسون، أطباء، ضباط، رجال أعمال، موظفون، مديرو شركات وطالبات جامعيات، مهندسات، طبيبات، سيدات اعمال، آنسات، مطلقات وأرامل، يمكنك اختيار نصفك الآخر فقط بالحضور وملء الاستمارة.. لا تتردد اتصل على الرقم .......... وتزوج !!!!!!». بهذه العبارات وبغيرها اخذت ما يعرف ب «مكاتب الزواج» التي انتشرت أخيراً في الخرطوم في الاعلان عن نفسها.. اعلانات ملونة تتصدر الصحف الاعلانية والاجتماعية هذه الايام، تحث الشباب على البحث عن شريك الحياة عبر استمارات للطرفين بها بيانات خاصة مثل الاسم، العمر، القبيلة، البرج، المؤهل الدراسي، الحالة الاجتماعية، ادق المواصفات الشخصية والجسدية، الوظيفة، العنوان، أرقام الهواتف وغيرها، بجانب صورة فوتوغرافية حديثة، ودفع رسوم تتراوح ما بين «25-50» جنيهاً، ليتم عمل بحث في طلبات الزواج لإيجاد من تنطبق عليه الشروط المطلوبة، وبعدها يقوم المكتب بالتنسيق بين الطرفين. وبعد الموافقة المبدئية ينتهي دور المكتب ويترك لكل طرف فرصة للتعرف على الآخر بصورة أعمق ولكن بعيدا عنه، الامر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى جدية الاطراف المتقدمة؟ ومصداقية هذه المكاتب؟ وما هو مدى تقبل المجتمع لفكرة هذا الزواج؟ وهل هذه المكاتب تقود الى تأسيس حياة زوجية سعيدة؟ وهل يمكن ان تقضي على مشكلة العنوسة؟.. كل هذه التساؤلات وغيرها هي محاور «الصحافة» في هذا التحقيق. يبدو ان التغييرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السوداني وما صاحبها من ارتفاع نسبة العنوسة وتأخُّر سن الزواج، دفعت شريحة من الشباب والفتيات للجوء لوسائل مختلفة تساعدهم في التخلص من هذا الشبح المخيف ومن نظرات المجتمع التي لا ترحم، وحسب الصندوق الخيري لمساعدة الشباب على الزواج، فقد بلغت نسبة العنوسة وسط الشباب 20%، وتراوحت اسباب تأخر الزواج حسب الشباب ما بين الوضع الاقتصادي 85%، وارتفاع المهور وتكاليف الزواج 75%، ومواصلة التعليم 32%، وعدم تحمل المسؤولية 25%، العطالة 23%، مساعدة الأسرة 19%، وسهولة الممارسة الجنسية غير الشرعية وعدم توفر السكن 12%. ونظرا للحاجة الملحة في معالجة قضية الزواج في ظل تضاعف تكاليف المعيشة والضغوط الاقتصادية، اهتمت بعض منظمات المجتمع المدني وبدأت تدفع المجتمع والشباب نحو الزواج من خلال تسهيل إجراءات الزواج ترغيباً للشباب ومساعدتهم، كما تولدت فكرة إقامة حفلات الزواج الجماعي باعتبارها تطوراً «لزواج الكورة» الذي كان سائداً منذ عهد بعيد رمزاً للتكافل والتآخي ومساعدة الضعفاء، الأمر الذي امتد ليشمل مؤسسات الدولة والقطاع الخاص. ومع تطور ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات وشيوع ثقافة الكمبيوتر والانترنت وظهور مقاهي الانترنت التي أتاحت فرص الدخول إلى الشبكة لقاعدة عريضة من الشباب، بدأت ثقافة جديدة تظهر على السطح خاصة على صعيد العلاقات الإنسانية والعاطفية، لتحطم سقف الحرية داخل هذه الغرف، فظهر ما يعرف بزواج الانترنت الذي كانت بدايته بمكاتب تستخدم الكمبيوتر للتوفيق بين الشباب الراغبين في الزواج ثم ما لبثت ان تحولت هذه المكاتب لواقع معاش تتزاحم اعلاناته على صفحات الصحف والمجلات. وبرغم أن هذه المكاتب تعد ظاهرة جديدة على المجتمع السوداني بعاداته وتقاليده المعروفة، الا انها شهدت اقبالا كبيرا، فقد بلغ عدد مشتركي مكتب «هو وهي » بالخرطوم بحري الذي تم افتتاحه قبل 9 اشهر حوالي 522 مشتركا، فيما وصل مشتركو مكتب «فتاتي» بالخرطوم «3» الذي افتتح قبل 3 اشهر الى 221 مشتركاً، وقال صاحب مكتب الخرطوم بحري سيد محمد احمد ابو حامد مصري الجنسية ل «الصحافة» خلال زيارتنا لمكتبه، انه قام بافتتاح المكتب بعد حصوله على تصديق من المحلية وفتوى من الشيخ يوسف الكودة، ومضى قائلاً إن بداية العمل كانت محدودة من الشباب، ثم اتسعت القاعدة لتشمل الجنسين، مؤكدا على انه نجح في تزويج «43» من المشتركين. وعن أسلوب التقدم لطلب الزواج يقول سيد إن المتقدم يأتي إلى المكتب ويطلب استمارة للتقديم قيمتها خمسون جنيهاً، ويقوم بملء ما بها من بيانات خاصة عنه مثل الاسم والسن والمستوى التعليمي والقبيلة والحالة الاجتماعية والوظيفة والعنوان وأرقام الهواتف، اضافة الى تدوين المواصفات التي يطلبها في شريك الحياة مثل طوله، عمره، مؤهلاته، وظيفته، راتبه، مستواه المادي الثقافي، الاجتماعي وأحياناً يطلب مواصفات أدق مثل الوزن، لون البشرة، لون العيون، وكل ما يريده في شريك أو شريكة الحياة. وفي اجابته على سؤالنا بخصوص أعمار المتقدمين، قال ابو حامد: بالنسبة للذكور فإن اعمار المتقدمين تتراوح ما بين 19 إلى 67 عاماً، بينما يتراوح عمر الإناث ما بين 18 إلى 51 عاماً. وكان ذلك ذات الاتجاه الذي مضت فيه المدير الاداري لمكتب «فتاتي» نصرة حسين أحمد، الا ان اللافت للنظر في استمارة مكتب «فتاتي» أن هناك بيانات أخرى من قبيل الطول، الوزن، لون البشرة، الحجم والديانة، بجانب وجود بيانات خاصة باعمال المنزل واجادة الطبخ وقيمة الدخل الشهري، وما إذا كانت المتقدمة تملك سيارة أوعملا تجاريا او منزلا، ومدى قدرتها على المشاركة في الانفاق. وتقول نصرة أهم مزايا هذا المكتب السرية المطلقة واتساع قاعدة الاختيار ومطابقة المواصفات الدقيقة والاستشارات العلمية، حيث يتوافر بالمكتب خبير اجتماعي. وقالت نصرة إن المكتب نجح في التوفيق بين عدد من الشباب، كما نجح في عقد زيجة لمدير بنك يبلغ من العمر «35» عاما متزوج ولديه اربعة اطفال من امرأة مطلقة اشترط عدم انجابها. وتابعت الآن لدينا حالة تقوم بالتجهيز لمراسم الزواج. وفي لقاء استهدف عددا من الشباب والشابات حول زواج المكاتب، افاد حوالى 8 من 10 هم أفراد العينة، انهم لا يقبلون هذا النوع من الزواج الذي يتم عبر الوسائط البشرية والالكترونية، ورفضت بسمة يحيى «42 سنة، مدرسة لم تتزوج بعد» ذلك التوجه، قائلة ان بقاء البنت بلا زواج أفضل من زواجها بهذا الاسلوب. واتفق سامر الطيب «29 سنة، مهندس» مع ما ذهبت اليه بسمة، واضاف ان الزواج ليس سلعة عرض وطلب، بل علاقة انسانية بالدرجة الاولى، غير ان مصطفي الذي فضل حجب هويته، لم يجد مبررا لرفض زواج المكاتب، شريطة أن تكون موضع ثقة من الجميع. ما هو رأي الدين وعلم الاجتماع؟ وهل المكاتب وسيلة للقضاء على العنوسة؟ وهل من خلالها يمكن أن نؤسس لحياة اجتماعية مستقرة؟ خبير علم الاجتماع حنان الجاك، اكدت أن الزواج بهذه الطريقة عملية تجارية لا تمت للعلاقات الاجتماعية بصلة. واضافت أن فكرة هذه المكاتب قائمة على الاستقطاب المادي وليست على اسس علمية مدروسة. وقالت حنان ان زواج المكاتب لن يقضي على مشكلة العنوسة بل سيفتح الباب لثقافة الزواج المتعدد والزواج العرفي. واكدت ان العرف السوداني للزواج قائم على أساس التوافق والاندماج الاسري، بجانب الوجود الذكوري كاول اشارات الاحترام لقدسية الزواج ليكون المرجع. وقالت حنان ان هذه المكاتب لن تضيف اي واقع ايجابي للمجتمع السوداني لتناقضها مع التكوين النفسي والتركيبة المجتمعية للمجتمع السوداني. ورأت ان هذه المكاتب ستساهم بطريقة غير مباشرة في اذلال المكونات الطبيعية للزواج، وستساعد على نشر الرذيلة والزنى المقنع، لانها تخلو من اي التزام ديني او اجتماعي او مرجع قانوني. واشارت الى ان حل مشكلة العنوسة لا يتم في اطار هذه المكاتب. فيما حذَّر المستشار القانوني ابو بكر اسماعيل سلامة من عواقب انتشار هذه المكاتب في ظل انعدام الضوابط القانونية والدينية، ووصف سلامة مكاتب الزواج بسوق النخاسة التي تعرض فيه الفتاة نفسها كالسلعة، وقال انه زواج قائم على التدليس أو الغش، وتساءل عن ضمان صحة بيانات الاستمارة التي تدعيها الاطراف المتقدمة، مشيرا الى صعوية التحقق من صحة هذه المعلومات في حالة اكتمال الزواج، مما يتسبب في ما وصفه بالكارثة. وتساءل سلامة قائلا: على من تقع المسؤولية في حالة حدوث حالات استغلال للقاصرات او ابتزاز؟ واكد سلامة خلو التشريع السوداني من أية مواد تتعلق بمسائل التوفيق بين الجنسين بغرض الزواج. ومن جانبه شنَّ عضو هيئة علماء المسلمين الدكتور سعد احمد سعد هجوما عنيفا على هذه المكاتب، وطالب باغلاقها فورا. وقال انها ستار للدعارة وممارسة الرذيلة، لأن التقاء الطرفين يتم خارج المراقبة الاجتماعية والشرعية، وافتي سعد بحرمة زواج هذه المكاتب اذا كانت تعمل من اجل الكسب المالي، واجاز عملها بشرط إدلاء المتقدمين للزواج بمعلومات صحيحة عن أنفسهم، وفي حال تقدم المرأة بعلم أسرتها أو ولي أمرها. ابو حامد دافع عن خدمة زواج المكاتب، وقال انها تتيح فرصة الاختيار الصحيح، كما تسهل فرصة في ظل انشغال الفتاة والشاب بالعمل والدراسة. وقال إن هذه التجربة ليست قاصرة على دولة معينة، فقد انتشرت هذه المكاتب في مصر ودول الخليج، واعتبر ابو حامد الاقبال الكبير الذي حظي به مكتبه دليلا على نجاح الفكرة التي بدأت تتطور وتتسع دائرتها لتشمل طبقات واسعة من المجتمع. فيما اعتبرت نصرة ان الهجوم على هذه المكاتب غير مبرر، لأنها تلعب نفس الدور التي كانت تلعبه «الخاطبة» في الماضي، وهى المرأة التي كانت تعرف كل عائلات الحي وتحمل صور الفتيات لعرضها على الشباب ليختاروا منها زوجة لهم مقابل مبلغ مالي، مشيرة إلى أن العادات والتقاليد ستتقبل تلك المكاتب بمرور الزمن. وقالت نصرة ان مكاتب الزواج تحاول توفير شريك الحياة بصورة أو بأخرى، خاصة بعد تصاعد مشاكل الاختيار لشريك العمر، وعزوف الكثير من الشباب عن الزواج بصورة أدت لانتشار العنوسة، في ظل الظروف الاقتصادية والضغوط المجتمعية. ولكن هل يمكن بالفعل للمجتمع أن يتقبل هذه المكاتب بمرور الزمن؟ وكيف السبيل الي تقنينها في حال اصبحت امرا واقعا؟حنان الجاك رفضت فكرة تقبل المجتمع لفكرة زواج المكاتب، واندهشت للاسباب التي ساقها ملاك هذه المكاتب، واضافت ان المجتمع يوفر بيئة احتكاك واختلاط وحوار بين الشباب. ونبهت حنان الى خطورة الفئات العمرية الاقل من «18- 21» من مرتادي هذه المكاتب، ووصفتهم بفاقدي الهوية والتوجه النفسي، وعدم استيعاب ثقافة الزواج بصفتها استراتيجية لبناء أسرة محترمة، ولفتت الى معاناتهم من مشاكل نفسية واجتماعية تبعدهم عن الخيارات الواضحة في تعزيز الحياة المستقرة. وقالت إن تقبل المجتمع لهذه الفكرة يعني التفكك الاسري وتفشي الانحراف. وتساءلت حنان هل تقدم هذه المكاتب خدمةً ما بعد الطلاق؟وهل تقدم خدمة الإرشاد الاجتماعي؟ وطالبت حنان الجهات المسؤولة بوقف أنشطة هذه المكاتب، ودعت الدولة للتدخل لفرض هيبتها الاقتصادية والاجتماعية في معالجة اشكاليات تأخر الزواج. ومن جهته طالب سلامة بتقنين عمل هذه المكاتب من خلال توفير الآلية الصحيحة لرقابة هذه المكاتب، وايجاد صيغة قانونية كي لا تتحول أهدافها إلى ممارسات غير مشروعة. وطالب الجهات المختصة بمساندة المنظمات الطوعية في تيسير الزواج للراغبين، وسن تشريعات لتيسير الزواج والحد من الصرف البذخي الذي يقعد بغير ميسوري الحال عن الإقبال على الزواج.