مثلما يرسم الخريف، لوحة جمالية، إبداعية، مُترامية الخُضرة والروعة والألق بقُدرة الخالق المُتعال، كان الشعراء والمُغنون في بلادي يتنسّمون ويُسَبِّحون قُدرة الخلاق البديعة الرفيعة في نفحات الخريف، ممّا عكس ذلك القريض جَمالاً على جَمالٍ، وألقاً على ألقٍ حتى أضحت جماليات أعمال تلك الأمطار شَامَةً في خدّ الأغنية السودانية، ومن أبلغ الأبيات في جماليات الخريف وروعته كلمات شاعرنا الكبير الحاردلو الذي قال: الخبر الأكيد قالوا البطانة إترشّت سارية تبقبق للصباح ما انفشّت هاج فحل أم صريصر والمنائح بشّت وبت أم ساق على حدب الفريق اتعشّت وبت أم ساق في تلك الأبيات يقصد بها الحاردلو صغيرة الغزال، إلا أنّ شاعرنا عمر ود الحسين عندما كان بصحبة الفنان الكبير سيد خليفة في أواخر خمسينات القرن الماضي بمنطقة المفازة وتعطّلت سيارتهما، فقاما بطلب النجدة من عُمدة الرفاعيين بالمفازة حسن عبد الله ود طه الذي أرسل لهما جرّاراً كبيراً ليسحب عربتهما، ورفض مُواصلتهما للمشوار إلا بعد أن يتناولا الذبائح والوليمة التي أعَدّهَا لهما، في الوقت الذي لم يكن فيه العُمدة يعرف أنّ هذا الشاعر هو ود الحسين وذلك الفنان هو سيد خليفة، فكتب فيه ود الحسين رائعته (شدولو ركب فوق مُهرك الجَمّاح)، والتي وصفه في أحد أبياتها بالخريف والرعد بعد أن قال فيه: يا رعد الخريف الفي سماك دمدم بابك ما انقفل نَارك تجيب اللم وقد شَدَا بها الرائع سيد خليفة كأروع ما يكون الشدو، ولكن تَعَالُوا ننظر إبدَاع عثمان حسين ورفيق دربه بازرعة عندما تغزّلا في الخريف وأوراقه فقالا في أغنية (ليالي المصير): يا ليالي المصير قولي لخلنا ** أوراق الخريف سارت حولنا ولكن الروعة وقِمّة الرمزية والإبداع أيضاً صَاحَبَت كلمات الرائع حِمّيد مع مصطفى سيد أحمد عندما قال: (يا مطر عزّ الحريق يا مصابيح الطريق)، في ربط جمالي أخّاذ يربط بشدة حَرارة النيران ونداوة زَخّات المطر.. ولكن الرائع سيد خليفة جعل من الخريف أملاً وموعداً ولقاءً تكسوه الخُضرة وتُعانقه الورود فشدا قائلاً: عندي أمل أعود في موسم الأمطار زُهور تضحك وخُضرة تتوج الأشجار ألاقيكم ويصبح فينا أحلى نهار أما المبدع الراحل المقيم صديق عباس فقد جاء من كردفان بمطرٍ مُعيّنٍ اسمه مطر (الرشاشة) الذي صَبّ فيه آلامه وشُجُونه ولواعجه وصدح قائلاً: مطر الرشاش الرشّة في دار كردفان الهشّة أنَا عقلي راح وطشّه ورى المراح النشّة وفي رمزية شاعرية مُفعّمة بالروعة والجمال، استخدم شاعرنا الكبير مدني النخلي، الخريف في توصيفٍ شاعري بليغٍ لمّا رأي حال صديقه ورفيق دربه مصطفى سيد أحمد بالدوحة، وحيداً يُعاني ويلات المرض والألم، فأنشد وَنَظّمَ وقال: مطر الحُزن عَاود هطل جدّد عذاب الأرصفة وانظر إلى روعة الحلنقي والرّاحل المُوسيقار وردي فقد هطلت أمطارهما مع هجرة عصافير الخريف في أحلى مُوسم للشوق والوجد والغروب بعد أن رسما بماء أمطار الشوق وهطول إبداعهما غيمة حُب كانت الأنصع والأجمل في سماء الأغنية السودانية فشدا بها وردي وقال: هجرة عصافير الخريف في مُوسم الشوق الحلو هيّج رحيلا مع الغروب إحساس غلبني اتحمّلو أما شاعرنا الكبير طيّب الله ثراه عوض جبريل رَغم أنّه تأذّى من المطر وتَضَرّرَ منه كَثيراً بعد أن اجتاح السيل والطوفان منزله، جلس وسط حطامه وأنقاضه التي خلّفها السيل وراءه، راضياً بقضاء الله وقدره فقال: ظروف بتعدي ما تهتموا للأيام طبيعَة الدنيا زي الموج تجيب وتودِّي ما تهتموا للأيام.