المُتأمِّل في الصحوة الشبابية الحاشدة الملازمة للثورة والتي قادت للتغيير، يجزم أن لا مثيل لها في التاريخ الحديث للسودان، بعد نفرة الاستقلال عام 1956م، فهي بلا شك قد أعادت للشّعب كَافّة مَعاني الاِنتماء والغيرة على الوطن والولوج إلى عُمق المعضلات والمُسبِّبات التي ظلّت تفت في قواه ومقدرته نحو الاِنطلاق والرقي، خَاصّةً في أوساط الفئة الشبابية القابعة بعيداً عن مآلات السياسة والحكم في فترةٍ زمانيةٍ ليست بالقصيرة، كما أنّ الشفافية والمُحاسبية والالتزام بالمواثيق التي تلت نجاح التّغيير من قِبل القوة المُنظّمة للنفرة والسَّاهرة على إنفاذ مُقَرّراتها، قد أضَافَت بُعداً آخر يُبشِّر بديمقراطيةٍ حقيقيّةٍ ومُرضية للانتماءات القبلية والإثنية والمناطقية كَافّة، إلا أنّ الضرورة المُلحة للمُحافظة على قُوة الاندفاع، ثم استغلال النجاح في تطويع المجلس العسكري بُغية اقتسام السُّلطة معه خلال الفترة الانتقالية والتبشير المُتكرِّر بالجُنُوح نحو المدنية قد تجاوز مقصده والنتيجة كانت ترسيخ الكراهية غير المُبرّرة في ذهن المُجتمع كافّة تجاه القوات المُسلّحة وجهاز الأمن بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل تجاه قوات الشرطة، وفي مُجملها هي مشاعر ورؤى سالبة لم تكن حاضرةً في أوساط الشعب السوداني منذ الاستقلال، وعواقب هذا الشعور الذي ربّما يتنامى مع المُحاكمات المُتوقّعة للمُخالفات التي وقعت أثناء الحراك إذا ما سُلِّطت عليه أضواء الإعلام الحُر وتُوِّجت بالعقوبات الرادعة.. يقود كل ذلك إلى خفض الروح المعنوية للفرد النظامي، كَمَا يُؤثِّر على ثقته الاحترافية والانفعالية بجنديته التي اختارها فداءً للوطن، والمعلوم عند أباطرة الحرب أن القدرة القتالية للفرد تعتمد على الروح المعنوية والإيمان بالقضية بنسبةٍ تصل إلى (60%)، وبالتالي تحوي ما تبقى من النسبة المئوية كل ما سواها من تأهيلٍ وتدريبٍ ولياقةٍ بدنيةٍ ومعداتٍ قتاليةٍ ووسائل نقل واتّصالات وذيل إداري وغيره من المُتطلبات القِتالية.. والناتج من كل ذلك يتمثل في التّقاعُس في الأداء وتهيُّب المسؤولية والتحسُّب للعُقُوبة، وقد تجلى ذلك في أحداث بورتسودان بين البني عامر والنوبة ليست على مُستوى الفرد فَقط، بل حتى على مُستوى القيادات، والمَعلوم أنّ الخطأ المُتداول خلال ثورات العالم الثالث هو الإصرار على النهج الثوري حتى بعد التربع على سدة الحكم، بينما أنّ الحكمة تكمن في تغيير النهج والالتفات إلى تقوية الأجهزة الأمنية كَافّة لحراسة المُكتسبات، وتنظيم التظاهُر والخُرُوج المشروع إلى الشارع بتصاديق وأزمنة ومَسَارات مُحدّدة، والمبدأ في ذلك أن لا سلطان بل أسنان أو كما قال السلف (الحكم قهر وضهر). كَمَا تَلاحظ وُجُود مُهدِّد آخر يتمثل في بروز حقدٍ مُتناهٍ تقوده الأسافير تجاه مُثقفي المركز والأقاليم الشمالية بالسودان ملؤه العُنصرية البغيضة ومنطقها استئثار قبائل الشمال بالحكم والوظائف العليا بالدولة، مُتناسين الفروقات الثقافية والتعليمية بين الهامش والمركز.. وهذا المُهدِّد ينبغي الالتفات إليه ومُناهضته حتى لا يفت في وحدة الجبهة الداخلية والمُجتمع السوداني المُتجانس، والوسيلة في ذلك تنشيط المُخاطبة السياسية المُوجّهة، والإعلام المُكثّف لمُحاربة هذه الدعوة ووأدها في مهدها. أمّا مَا هو مُهمٌ في هذا المقام، وقد اخترته عنواناً لهذا المقال، فقد تلاحظ تناوُل العديد من الأقلام وكذا الحوارات المرئية وما تعنيه العقيدة القتالية للقوات المُسلّحة أو الدولة، وما تمّت تسميته بواسطة الوسطاء من القادة السِّياسيين، بمجلس الأمن والدفاع. وقد تناولت الأقلام هذه المَسائل بِسطحيّةٍ تَتَجَافَى والواقع، حتى أنّ الوسطاء من السّاسة قد حَاولوا إيلاج مجلس الدفاع والأمن كأحد الحلول في اقتسام السلطة بين العسكر و(قحت).. لولا أنّ الله سلم.. وبما أنّ الديمقراطية الحَقّة تبيح المُشاركة وتمليك المعلومات لمُجمل الاستراتيجيات العسكرية ولا تردعها عَن العِلم، تلك السِّرية المفروض على مُعظم مبادئ ومُتطلّبات الأمن، أو جُملة (ممنوع الاقتراب والتّصوير) التي عُفي عنها التطور التقني، أجد أنّ تمليك معلومات واستراتيجيات الأمن ومُهدِّداته تُحفِّز المُواطن للمُشاركة والدِّفَاع والتّبليغ بِطَلائع النّشاط الهَدّام كَمَا تَطَوّر حِسّه الأمني الإيجابي، وليعلم من يجهل أنّ العقيدة القتالية للدولة لا تخرج عن خياريْن: إما هجومية أو دفاعية، إذ أنّ الدولة التي تأمل في التّوسُّع والاِنتشار مثل إسرائيل تختار العقيدة الهجومية، واما ما تتسع رقعته الجُغرافية ويخشى على تبديد ثرواته كما يخشى الغزو والتّمدُّد من دول جوار تشكو الانفجار السكاني أو دول غير مُستقرة أمنياً فهو يختار العقيدة الدفاعية.. والسودان مثلاً لذلك.. وتلك هي الحالة التي يسمح فيها القانون الدولي بتبني قوات شبه نظامية (غير مُتفرِّغة) لحماية الأطراف بتكلفةٍ أقل ومُرونةٍ أعلى من الجيش النظامي. وَلَكِن بنسبةٍ لا تَتَعَدّى قُوة وفاعلية القُوّات النظامية في الإقليم الطرفي أو الحُدُودي، وبالتالي يكون الأفضل للعقيدة القتالية قيام مجلسيْن أحدهما للأمن القومي على المُستوى الاِستراتيجي والآخر للدفاع المدني على المُستوى التعبوي أو التّكتيكي. والجدير بالذكر أنّ مجلس الأمن القومي هو الأعلى شأناً وسط جميع مجالس الدولة السيادية والتنفيذية والتشريعية، يترأسه رئيس مجلس السيادة وتتكوّن عُضويته، من رئيس مجلس الوزراء ورئيس المجلس التّشريعي ووزراء الخارجية والداخلية والدفاع والمالية والنائب العام، ويعنى بالتقرير في المسائل السيادية والاِستراتيجية كَافّة، مثل الالتزام بمواثيق الأممالمتحدة المُتوقِّعة بواسطة الدولة، والاِنتماء للمحافل الدولية أو الإقليمية والدخول في أحلافٍ عسكريةٍ أو اِتّفاقيات دِفاع مُشترك، وتَحديد العلاقَة مع دول الجوار وانفتاح القوات المسلحة على المسارح المُختلفة كَافّة في الدولة، وإعلان حالة الحرب أو الطواريء، ومن صلاحية المجلس أيضاً تَنزيل ما هو أهم من كل ما ذُكر ليناقش في مجلس الشعب أو الاِستفتاء الجماهيري عليه مثل التّكامُل مع دُولٍ أُخرى أو انفصال أيِّ إقليمٍ من الدولة وكذا المسائل المُرتبطة بالعقيدة مثل الاِعتراف بإسرائيل أو تمثيلها داخل الوطن.. ومن الأخطاء التي يحفظها التاريخ ويخلِّدها تنازُل حكومة عبود عن إقليم حلايب، وفصل جنوب السودان خلال فترة الإنقاذ. وتتكوّن سكرتارية هذا المجلس الذي يَجتمع بشكلٍ ربع أو نصف سنوي أو عند الطواريء من مدير جهاز الأمن رئيساً وسكرتارية تتمثل فيها القوات المُسلّحة والدعم السريع والخارجية والشرطة والنائب العام في مَقرٍ مُنفصلٍ يتبع لرئاسة الجمهورية يحوي مركزاً للمعلومات ومجلساً عشرينياً (غير مُفرّغ) لعلماء مُتعاونين في مجال الحدود والصحة والتنقل والتعليم والبترول والمياه والكهرباء وغيره. أمّا المجلس الآخر في المُستوى التعبوي باسم مجلس الدفاع الوطني يُعنى بمسائل الأمن الداخلي والتصدي للأنشطة الهَدّامَة والشغب والتّخريب وكذا الكوارث الطبيعيّة من الزلازل والسُّيول والمَجَاعة وغيره، يترأسه وزير الدفاع وعُضوية رئيس الأركان المُشتركة للقوات المُسلحة ومدير عام الشرطة والنائب العام، ويقود سكرتاريته مدير هيئة الاِستخبارات العسكرية وعضوية قائد الاحتياطي المركزي وقائد الدفاع المدني، وله موقع مُتَخَصِّص يُسمّى بالمنطقة العسكرية المركزية يحوي مركزاً للمعلومات وخرائط مفصلة للعاصمة والأقاليم بمقياس رسم عملياتي ووسائط اتّصال لا سلكية مُتنقِّلة، ويبقى الرابط المُشترك بين مجلسي الأمن القومي والدفاع الوطني مُمثلاً في وزير الدفاع والنائب العام لتنسيق المُوجِّهات الضرورية والأشواق لضمان التّوافُق في الرؤى. سُرعَة قيام هذه المراكز يَتَوافّق مع مُتطلبات المرحلة الحالية الداعية لتشكيل مجلس السلام كخطوةٍ مُتقدِّمةٍ وعاجلةٍ للسلام، وتَوحيد الجَبهة الدّاخلية والذي يَعمل بالتّوازِي مع مُفوضية نزع السِّلاح والتّسريح وإعادة الدمج المُنبثقة عن اِتفاقية نيفاشا والتي تُؤدِّي مهامها بإشرافٍ من المجلس القومي لتنسيق نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج وتمويلٍ من الأُمم المتحدة والاتّحاد الأفريقي والجامعة العربية والعديد من الدول المَانحة للمشروع بنسبة تمويل خارجي يبلغ ثُلثي تكلفة الأداء مِن نَزع السلاح وإعادة دَمج المُقاتلين في المُجتمع المدني، وتوفير سُبُل العيش الكريم لهم، وقد تجاوزت الإنجازات لهذا الصدد نسبة (60%) من المُستهدف، خَاصّةً المُسرّحين في اِتفاقية نيفاشا لمناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي، وبنسبة أقل لاِتفاقية الدوحة تجاه إقليم دارفور، وبالتالي حينما يبدأ نشاط وحِرَاك مجلس السلام تِجَاه قيادات الحركات المُسلحة والدول المانحة والمُشجِّعة لأنشطتها تَستمر مساعي مفوضية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدَّمج مع القيادات الميدانية قليلة التّأثُّر بالأجندة السِّياسيَّة الخَفِيّة ضد أمن وسلامة الوطن والأنشطة الهَدّامة لدوائر المُخابرات الأجنبية. وحينما تَتَنَزّل واجبات مجلس الدفاع الوطني نحو الولايات، تنشأ مجالس الأمن المحلية لكلِّ ولايةٍ أو مَدينةٍ برئاسة الوالي أو الضَابط الإداري الأقدم وعُضوية قائد القُوّات المُسلحة للولاية ومدير شرطة الولاية ومُدير جهاز الأمن للولاية ومُمثل للنائب العام في اِجتماعات ربعية أو طارئة للتصدي لخُرُوقات الأمن كَافّة من كوارث طبيعية أو كوارث من صنع الإنسان، وبما أن القيادة للأجهزة الأمنية الثلاثة قيادة مركزية، بمعنى عدم قُبُول التدخُّل فيها بأيِّ مُوجِّهات أو أوامر من قِبل القيادات التنفيذية بالولايات، فينبغي على رأس الدولة عند صياغة الأمر الدستوري المُنظِّم لأعمال لجان الأمن المحلية أن يُفصل بقرارٍ واضحٍ إلزام جميع الأجهزة الأمنية لتنفيذ مَا يتّفق عليه أثناء تَداوُل اللجنة لِمَوضُوعَاتها الأمنية أو الطَارئة وذلك لمُواكبة المُتطلبات الأمنية العَاجلة لحماية الأرواح والبنى التحتية والمُنشآت والمُعدّات كَافّة. هذا ما لزم سرده عبر اِجتهادٍ متواضعٍ، يأمل في وضع الأمن في المَدار الأمثل، لعلّها تُكف العديد من الأقلام أو الأصوات التي تُنادي بسحب القوات من الخليج أو الاِعتراف بإسرائيل وتمثيلها داخل الوطن أو غيرها من الموضوعات الأمنية والاستراتيجية قبل تكوين هذه المجالس.