عشنا تجارب عشاق الأدب التي أثرت الوجدان، وأثارت المشاعر، فمن منا لم يته عجباً بقصائد عنترة إلى عبلة، وجميل لبثينة، وكثير لعزة وعمر بن أبي ربيعة لهند وغيرها من تلك القصائد العذبة التي رقرقت الوجدان العربي عبر العصور الأدبية. من الكتب التي صدرت في هذا المجال كتاب للأديب الكويتي عبد الله خلف بعنوان (العاشقون العرب لبنات أعمامهم) وهذا الكتاب يساهم بقدر كبير في كشف كنوز المشاعر والأحاسيس الرقيقة التي عايشها الشعراء العرب وتولدت منها أروع قصائد الحب والتضحية والعذاب ورحلة العاشق بين الصحراء والذكريات وأطلال الحب والبكاء وحيداً بعد رحيل الحبيبة أو الموت هرباً من واقع مؤلم ووحدة مريرة. الأديب عبدالله خلف من أعلام الأدب، يتميز بفكر عميق وتحليل دقيق وأسلوب شائق ورقيق، وقد أبحر في نفوس العشاق يحلل المواقف ويفسر المشاهد ويجسد روعة الإحساس بالحب والموت فداء لعيني الحبيبة. أعتقد أن عبد الله خلف قدم صوراً كانت مطموسة في أغوار تاريخ الأدب عن هؤلاء العشاق وكشف عنها ستائر النسيان ومنحها النور والحياة لتتجلى أمام القراء في رداء من الزهو والكبرياء وقد قرأ وتأمل وتأثر وانبسطت الحقائق أمامه، وانفتح التاريخ على همسات الشعر والشعراء وتنهدات العاشقين، وعاش تجربة وجدانية رسمت أمامه عيني الحبيبة في لحظات تدفق دموعها، وخفقات قلبها الممتزجة بالخوف والرهبة وخطواتها المضطربة فوق الرمال ويقتفي الشاعر آثارها في كل مكان. ولكن هناك تساؤل نطرحه: ولماذا العاشقون لبنات أعمامهم؟ في الحقيقة تبدو السمة الإبداعية لهذا الكتاب الرقيق، فقد استطاع المؤلف أن يقدم مجموعة من عشاق العرب المبدعين مع بنات أعمامهم، وأعتقد أن هناك كتابا قد جمع هؤلاء جميعاً في صفحات واحدة من قبل، فقد صدرت كتب كثيرة عن العشاق والمشاهير والشعراء العرب ولكن لم تتحدث بإسهاب أو تفصيل عن الشعراء وبنات أعمامهم، ويكون كتاب عبد الله خلف بذلك قد مزج بين جدية البحث وطرافة الموضوع والفكرة المبتكرة، وهذا ليس غريباً عليه فهو أديب عاشق للتراث الأدبي ومجد في إطلاعه، وهمته لا تفتر أبداً في سعيه نحو تقديم ما هو مبتكر وجديد ومؤثر. واذا عدنا إلى مؤلفاته التي صدرت من قبل فنوقن أنه من هؤلاء الأدباء الذين وهبوا حياتهم للكتب والكتابة ومهمة تصوير المشاعر والمواقف وإعلاء شأن الوجدان، واثراء الذات بالمواقف الإنسانية التي نادراً ما نلمحها في حياتنا المعاصرة. إن تاريخ عبدالله خلف حافل بجولاته بين عصور الأدب ومواقف الشعراء، وأخبارهم، وأهم ما تميز به شعرهم من قيم أخلاقية وإنسانية وبطولات تصدح بها رمال الصحراء ويتيه بها النخيل العالي، ولعل برنامجه الإذاعي أو تلك البرامج الأدبية التي قدمها تعتبر شهادات ابداع لحسن تذوقه ورهافة روحه في استجلاء ما خفي من معان جميلة لدى الشعراء، واستطاع بمهارته اللغوية وعباراته العذبة أن يعبر عنها في بساطة وعفوية كأنه قد زرع منذ زمان حدائق من الأدب تنوح نسماتها في قلب المتلقي عبر هذه السنوات الطوال من الأحاديث الأدبية. أيضاً استطاع بجهده ومثابرته وإبداعه أن يقدم مجموعة من الكتب كانت بدايتها رواية واقعية بعنوان "مدرسة من المرقاب" ثم احتل الشعر والشعراء ذهنه وفكره ولا سيما الشعراء الصعاليك الذين صاحبهم في كتابه "الشعر ديوان العرب" فهو مفتون بديوان العرب. ماذا قدم عبد الله خلف في كتابه الوجداني عن الشعراء وبنات أعمامهم؟ يقول في مقدمة الكتاب "عايشت كتب الأدب العربي، وانتقيت الجيد منها وأذعتها في برامجي الثقافية والأدبية في إذاعة الكويت، وبدأت بالشعر الجاهلي في برنامجي اليومي "الشعر ديوان العرب" على مدى سنوات، ثم برنامج، الشعراء الصعاليك، ثم يفسر معاني العشق ويقص بعض الأحاديث عن العشق ونماذج من قصائد العشاق الشعراء، ويرى أن قضية الحب من أهم القضايا الإنسانية التي اهتم بها التراث العربي، وهي من الموضوعات التي شغلت البشرية. ويقدم لنا لمحات من كتب التراث التي سردت مواقف كثيرة للمحبين والعاشقين، وفسرت معني الحب والهيام والشجو والوله والصبابة، من هذه الكتب التي ما زالت نبع المشاعر الدافئة بالحب كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي، وكتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن الجوزية، وكتاب "مصارع العشاق" لابن السراج، وكتاب "مدامع العشاق" لزكي مبارك، وكثير من الكتب والمؤلفات الأخرى. مشاهد من الحب: وبعد قراءة موجزة لمحتوى الكتب السابقة التي تعد وثائق أدبية وكنوزاً إنسانية في الحب، يقدم عبد الله خلف نحو أربعين مشهداً في الحب من أعماق التراث العربي، وقد اختار لهذه المشاهد بعض العناوين المختلفة، مثل: صريعا الحب، يقتلها ويبكي عليها، العاشق المظلوم استشهد في الطريق، المرقش الشاعر وأسماء. وتميزت المشاهد بأنها تجمع سمات القصة القصيرة بما تحتويه من بنية سردية وحوارات ومواقف ومشكلة عسيرة تعترض الشاعر ويحاول الخلاص منها، وإلى جانب هذه البنية السردية تتألف نصوص شعرية لتكون بمنزلة الإنجاز بعد التفصيل والتحليل، وقد حرص المؤلف على أن يكون النص الشعري رائعاً وجميلاً خالياً من وحشي الكلمات أو غموض العبارات حتى يكون له أثره النفسي في المتلقي. كذلك نلاحظ سمة في النماذج الشعرية التي انتقاها الأديب عبدالله خلف أن القصيدة تصف الحب العذري والروحي والغزل العفيف الطاهر بعيداً عن المشاعر الحسية أو المادية، ونحن نعلم أن هناك في باطن التراث كثيراً من الشعر الحسي والماجن، ولكن لم يتطرق إليه الكاتب لأن هدفه السمو بالمشاعر والرق بالوجدان الإنساني. صورة المرأة العربية: حتى صورة المرأة العربية الحبيبة أو المحبة يبدو فيها الحياء والوقار والخوف من الله وعقاب الآخرة واحترام العادات والتقاليد العربية الأصيلة، وقد يعشق الرجل المرأة ولا ينالها فيتألم وينتظر أن يلقاها في جنة الخلد فيقول لحبيبته: نعم المحبة يا سؤلي محبتكم حب يجر إلى خير وإحسان إلى نعيم وعيش لا زوال له في جنة الخلد خلد ليس بالفاني وشاعر آخر يصف روحه الهائمة في المحبوب بعزة نفس وعفة قلب ورفعة روح وسمو ذات ويفخر بهذا الموقف الروحي الذي يترفع عن دنايا الحياة ويسمو محلقاً عن الفواحش والخطايا ويقول.. ما إن دعاني الهوى لفاحشة إلا عصاني الحياء والكرم فلا إلى محرم مددت يدي ولا مشت بي لزلة قدم وإذا تفاقمت الخطوب في مواجهة الشاعر لوصال الحبيبة واحتشدت العثرات وصار الهوى جداراً حائلاً بينه وبينها، يلوذ في صمته ويهفو بروحه إلى لقاء الحبيبة في الآخرة حيث لا رقيب ولا موانع تقف في مواجهته، ويقول معبراً عن ذلك: لئن منعوني في حياتي زيارة أحامي بها نفساً تملكها الحب فلن يمنعوني أن أجاور لحدها يجمع جسمينا التجاور والترب هكذا تميز كتاب الأديب عبد الله خلف بتلك القيم الأخلاقية في الحب وصور مضيئة للعشاق تميزت بعلاقات شفافة وحوارات خفاقة بالحنين وأشواق جياشة بالمشاعر، تحية للأديب عبدالله خلف لأنه أضاء نفوسنا بمشاعر رقيقة في عصر الجمود، وزرع وردة حب في حدائق الروح.