هذا الحوار مع سكرتير الحزب الشيوعي السوداني المهندس محمد مختار الخطيب بدأت الحديث بشأنه في دار الحزب بالخرطوم(2) وأكملناه في منزله بالحاج يوسف. ولستُ أدري هل من مفارقة بين مقر الحزب ومنزل سكرتيره، أم أن الأمر متسق. فقد جئت إلى مكتبه بدار الحزب دون سابق موعد فوجدت الخطيب على وشك الدخول في اجتماع ولم يمنعه ذلك من الترحيب بي وتبادل التحايا. قال لي: (تعال في البيت يوم الخميس أشرب معانا شاي المغرب وأعمل الحوار).. ذهبت إلى منزله المتواضع في (محطة الصهريج) في الموعد. فأحسن، وكريمته الفضلى – التي التقطت لنا صور هذا الحوار- الترحيب ب (السوداني). وعندما هيأت الخطيب إلى أن الأسئلة ستكون ساخنة، قال إنه يتفهم حرص الصحفيين على استجلاء الحقائق ولا يمانع من طرح أي سؤال. بل تحدّث حتى في المحاور التي كانت على مشارف الإحراج، بتلقائية من تعود على هذا النوع من التساؤلات مسبقاً، دون أن يسلك أي منعطفات لغوية للهروب من صيغة الأسئلة- كما سنرى: * يرى البعض أن وجود وزراء ومسؤولين كبار في الحكومة بخلفيات شيوعية من أسباب تلكؤ أمريكا في رفع اسم السودان من القائمة السوداء.. هل ترى ذلك؟ * أمريكا تخدم مصالحها، ولا يهمها من يحكم. وهي مع كل من ينفذ لها تلك المصالح. وواحدة من المآخذ على هذه الحكومة وحمدوك خاصةً في الجانب الاقتصادي أنهم بدلاً من أن يعملوا على استغلال مواردنا وإمكاناتنا الداخلية ويعملون على استرداد الأموال المنهوبة في سبيل أن نعرف الوضع في السودان، ثم نخرج للخارج لمساعدتنا في إعادة بناء السودان، هرولوا إلى الخارج نحو أمريكا والبنك الدولي وغيرهما.. وهم لم يقفوا ضد مصالح أمريكا حتى يظل السودان في القائمة. بالعكس نحن نأخذ عليهم أنهم مازلوا ينظرون في الحل الخارجي والارتباط مع أمريكا وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهو ما يجري حالياً من سعي برهان للاعتراف بإٍسرائيل وعقد مفاوضات جوبا بدلاً عن ايجاد حل حقيقي ثم دعوة حمدوك لتدخل الأممالمتحدة وحتى زيارة الرئيس الألماني كل ذلك يمضي في استباق حركة الجماهير حتى لا تمتلك إرادتها، وحتى تكون إرادة السودان مرهونة للخارج.. *كأنكم ضد إصلاح علاقات السودان الخارجية؟ – نحن لسنا ضد إصلاح علاقاتنا مع الدول الخارجية وتبادل الخيرات والمنافع مع الشعوب وأن نحافظ حتى على سلامة كوكب الأرض، فهذا شيء مشترك، لكن نرفض أن نكون في اتجاه تابع لسياسات الرأسمالية العالمية. ويجب أن نكتفي ذاتياً في الداخل ثم ما يفيض عنا نتعامل به مع الآخرين. * رغم انتقادك لتعويل الحكومة على الخارج، لكن من يتبنى هذه السياسات في الجهاز التنفيذي يحظى بتقدير كبير اختزله الكثيرون بعبارة (شكراً حمدوك)، فهل ترى أن فعله لا يستحق الشكر؟ * أنا لم أقل إنه ليس ضرورياً أن نتصل بالخارج، ولكن لا تبدأ بالهرولة للخارج أولاً. وهذا يعني أن النظرة للقضايا السودانية في الخارج وليس في الداخل. نحن نرى أن الحل في الداخل. وبالتالي اختلف الأسلوب، في أن تحصر إمكاناتك وقدراتك الحقيقية في الداخل، ثم بعد ذلك تطلب المساعدة من الآخر، وليس العكس. *على ذكر الخارج.. هناك اتهامات توجه لك بصورة شخصية، فأنت وحزبكم متهمون بإطلاق قنابل تؤثر في علاقات الحكومة مع بعض الدول.. والبعض حملكم مسؤولية ايقاف 2.5 مليار دولار من المنحة السعودية الاماراتية بسبب نقدك لهما؟ – أولاً الوضوح مع الجماهير ضرورة، وهذه مهمتنا. ونحن يهمنا السودان أولاً ولا نريد أن يتدخل الآخرون في شؤوننا. ونعلم تماماً اللعب الذي لعبته دول إقليمية وخارجية في ما يجري حالياً بالسودان، والأيام برهنت ذلك.. *عفواً يا باشمهندس.. ألا ترى أن هذا الوضوح الذي تتحدث عنه مضر في الواقع؟ – كيف؟.. فالناس لا يأتون إلينا لأنهم يعطفون علينا، هم يأتون لأن عندهم مصالح عندنا، والمصالح أصلاً موجودة، لكن كيف نقدم هذه المصالح في سبيل أن نتبادل الخيرات معاً هذه هي الإشكالية. وليس كلام الحزب الشيوعي أو غيره هو الذي يؤثر في هذه الأشياء. وكيف تستخدم مصالحك وعلاقاتك في سبيل أن تجني من الآخرين منفعة حقيقية. *هل تعرضتم لعتاب من الجهاز التنفيذي لأن حديثكم تسبب في إحجام بعض الدول عن الدعم كما يقولون؟ – هذا ما قاله حميدتي بشكل مغلف، لكن حميدتي نفسه متهم بأشياء كثيرة، بل يعمل للحفاظ على مكتسباته في الفترة الفائتة. وعندما تحدثنا أن هنالك شركات تابعة لجهاز الأمن ولقوات الدعم السريع وللقوات النظامية بشكل عام ويجب أن ترجع إلى ملكية الدولة، هم رفضوا هذا وقالوا إنهم سيقدمون (2) مليار دولار لخزينة الدولة، إذن هم أصحاب مصلحة في الإبقاء على المؤسسات القديمة. *ألا ترى إن الانتقادات من هذا النوع تصب في مصلحة الثورة المضادة وتوفر ذخيرة حية للهجوم على الحكومة- كما قال الإمام الصادق المهدي- دون أن يسمي جهة بعينها؟ – أنا لا أود أن أتحدث عن أحزاب. لكن نحن ضد أي شكل من أشكال الهبوط الناعم، ولن نسكت على أي توجه للانحراف بهذه الثورة عن ما ترمي إليه الجماهير. نحن نود أن نصل ونؤسس لدولة مدنية ديمقراطية أساس الحقوق والواجبات فيها المواطنة ونعمل إصلاحاً حقيقياً كما توافقنا في مواثيقنا مع قوى إعلان الحرية والتغيير لإعادة هيكلة السودان الذي توافقنا عليه بباريس في 2016م وأن يكون الاقتصاد مختلطاً قطاع عام وقطاع تعاوني وقطاع خاص وقطاع حتى للاستثمارت الأجنبية… * تصريحاتك عن تحكم المكون العسكري في مجلس السيادة على مقاليد الأمور بالبلاد قد توغر صدر المدنيين على شركائهم العسكريين.. ألا تخشى ذلك؟ * أكيد المكون العسكري هو الذي قطع الطريق أمام الانتفاضة، ومارس نفس ممارسات النظام السابق في القمع وكذا حتى يحدث انحسار في الشارع لكي ينفذ أجندة. ونحن لسنا ضد القوات النظامية، وإنما ضد تدخل القوات النظامية في العمل السياسي بشكل عام. فدور القوات النظامية واضح هو حماية الحدود والحفاظ على أمن البلد. *كيف تقيّم آداء حكومة حمدوك حتى الآن.. هل هو مرضٍ برأيك.. وهل تسير في الاتجاه الصحيح؟ – حتى الآن الشعب كله يشتكي، والسياسات هي نفس السياسات، ولم يتم تفكيك النظام بصورة صحيحة، والجانب المسيّطر وصاحب السلطة الحقيقية هو المكوّن العسكري في داخل مجلس السيادة وهم الذين يديرون السودان حالياً، مجلس الوزراء مجرد من أي ركائز قوة في داخل السلطة لتنفيذ إرادته.. وبالتالي مجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير بتوقيعهما على ذلك الاتفاق يتحملان ما وصل إليه حال الحكومة الانتقالية .. *كأنك ترى أن حال حكومة حمدوك الآن لا يسر؟ – لا يسر حقيقة. * من خلال تقييمك لأداء الوزراء في حكومة حمدوك هل ترى ضرورة لتغيير أي من الوزراء في الوقت الراهن، أم أن أداءهم مرضٍ برأيك؟ * ما نأخذه على هذه الحكومة، أنهم حتى الآن لم يُعلِنوا برنامجاً وسياسة كلية، فلا يمكن أن يُحاسب كل وزير على انفراد. ومجلس الوزراء يجب أن تكون مسؤوليته تضامنية، وإذا لم تعلن سياسة كلية واضحة فيها إلى أين تتجه هذه الحكومة وماذا تريد أن تحقق من أهداف، فيصبح أي كلام عن هذا الوزير أو ذاك ليس هو الطريق، الطريق هو أن تكون هنالك سياسات كلية وكل الوزراء يلتزمون بتنفيذ هذه السياسات التي تخدم هذه الثورة. *ظل الحزب الشيوعي هو الأكثر انحيازاً لقضايا الجماهير، لكن ملاحظ أن صوته أصبح خافتاً مع تعالي أزمات الخبز والوقود وتطاول الصفوف ؟ * هذا تقييمك، لكن الحزب يعمل بقوة وسط الجماهير، وقد تكون لاحظت أننا عقدنا ندوات كثيرة في الفترة الفائتة وجُبنا كل أنحاء السودان.. ونصدر بياناتنا التي تُبصّر الجماهير بما يجري في السودان ونوعيّهم بالأسباب وراء ذلك. والجانب الآخر لدينا ندوة كل يوم أربعاء يأتي إليها حضور مقدر نتناول فيها القضايا الآنية التي تطرح نفسها. *وزير المالية يرى أنه لا خيار سوى رفع الدعم، وذكر مبررات تبدو منطقية.. فماهو موقفكم من هذه القضية؟ – نحن ضد رفع الدعم بشكل عام نتيجة لأن رفع الدعم هي روشتة البنك الدولي. والدعم أساساً هو لوضع استقرار، وهو شكل من أشكال الاستثمار أيضاً لأنه عندما يحصل ويكون الناس في حالة استقرار حقيقي تحدث زيادة في الإنتاج وغيره. الجانب الآخر هو أن رفع الدعم سيؤثر على الفقراء، فهو سيرفع الدعم من فقراء المواطنين والشرائح الضعيفة.. *عفواً وزير المالية قال عكس ذلك تماماً، وأوضح إن دعم البنزين مثلاً يستفيد منه الأغنياء ولذلك هو يريد أن يعيد توجيه الدعم لمستحقيه من الفقراء؟ – لكن في الواقع الأمر ليس هكذا، فهو يتحدث عن أنه سيغطي الأشكال بدعم مباشر للمواطنين، ولكن في الواقع هو لا يتجه لهذا الاتجاه، بل ليس له إمكانات لعمل هذا الأمر. نحن مع مؤتمر اقتصادي يتناقش فيه كل الاقتصاديين وخبراء الاقتصاد في سبيل الوصول لحلول حقيقية لرفع الغبن عن المواطنين. ولا يمكن أن يكون التوجه الذي يمضي الآن هو الحل. * هل يعني حديثك هذا أنكم ضد وجود سعرين للخبز والوقود.. تجاري وعادي؟ * نحن ضد أي شكل من أشكال التمييز بين الناس، وأن يأخذ مواطن خبزاً فخيماً وآخر لا يجده لماذا يحدث ذلك؟، والمهم هو كيف أن تستقر حياة الناس ويعشوا حياة كريمة. ويجب أن نبحث عن حلول أخرى، فما نراه الآن هو اتجاه للخارج وإهمال للجانب الإنتاجي. والسياسات الاقتصادية التي يتبناها وزير المالية وحكومة حمدوك بشكل عام تسير في نفس الطريق الذي خبره الشعب السوداني منذ عام 1978م، وهو السير وراء إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تعمل في سبيل أن يكون إنتاجنا للخارج وللسوق العالمي وليس للداخل. نحن نحتاج إلى سياسات إنتاجية تعمل على خدمة الاكتفاء الذاتي داخل السودان، ثم ما يفيض عنها نتعامل به مع الخارج، وأن يكون هناك اقتصاداً مخططاً وليس سياسة السوق الحر يسهم فيه القطاع العام والتعاون بشقيه، وكذلك القطاع الخاص المحلي، ونفرد مكان للاستثمارات الأجنبية. ولكن وفق برنامج اقتصادي اجتماعي يخدم مصالح السودان بشكل عام. * استغرب الكثيرون في الأيام الفائتة من بيان للحزب الشيوعي يؤيد فيه طلب حمدوك بتدخل أوسع للأمم المتحدة على نحو عدّه البعض تعليقاً لسيادة البلاد؟ * لم نؤيد ما طرحه حمدوك وطلبه نقل السودان من الفصل السابع إلى الفصل السادس بشكل مطلق، لكننا قلنا كلاماً واضحاً، وهو أننا جزء من الأممالمتحدة وبالتالي من حقنا أن نستفيد من مساعداتها وإمكاناتها في سبيل تحقيق السلام في بلادنا. ونحن نعلم أن هناك واجبات ومهام صعبة على شعبنا، وتحقيق السلام يعني أن نقوم بكل التزاماتنا نحو حل قضية القوميات في السودان، وأن نعالج آثار الحروبات بشكل عام، وبالتالي المساعدة في عودة النازحين إلى قراهم وإيصال الإغاثات لهم وتوفير الحماية والأمن وسبيل كسب العيش لهم حتى نوجد وضعاً طبيعياً ينتقل بنا إلى بيئة صحيحة في سبيل أن نعقد مؤتمراً دستورياً قومياً نحل فيه قضية القوميات وقضية السودان بشكل عام. * بالنظر للساحة السياسية وتجاذباتها الآن، هل تخشى من حدوث انقلاب,. وهل مثل هذا الأمر وارد برأيك؟ * أيوا، ليس انقلاباً عسكرياً. فهناك خطط (أ) و(ب) و(ج) و(د)، فإما ينجح الهبوط الناعم والاستمرار في ذات السياسات وهذا يتطلب حدوث انحسار في الشارع في سبيل تمرير هذه الأجندة وبالتالي هم يضعون كل ثقلهم في أن يحدث انحسار في الشارع وجربوا ذلك في فض الاعتصام وبعده وفي ما يتم حالياً من قمع لأي مواكب تخرج، وفي نفس الوقت يضعون إذا لم يتم هذا أن يسيّطروا على السلطة عبر أشكال أخرى قد يكون الانقلاب واحداً منها، لكن الجماهير يقظة. والقوى المضادة يجب أن تفكر (20) مرة قبل أن تفكّر في انقلاب لأن هذه الجماهير رافضة لأي شكل من أشكال الانقلابات العسكرية. * لكن برأيك يظل حدوث انقلاب أمر وارد ويبدو من قراءاتك للساحة السياسية لا تستبعد حدوثه؟ * هنالك مغامرون بلا شك يمكن أن يقوموا بأي عمل. ولكن المهم أن الجماهير لن توافق على أي انقلاب عسكري في الفترة القادمة.