مجال الهندسة بجميع تفريعاتها، شهد تطوراً عالياً ونمواً مضطرداً بعموم السودان، أحسبه تزامن مع نشأة السكك الحديدية بالبلاد، والتي أنشئت لتخدم بالأساس مشروع الجزيرة وبالذات نقل الأقطان للمصانع الإنجليزية، وأعتقد أيضاً أن أسطولنا البحري التجاري قد وجد بذات الفترة.. إذن نحن عشنا فترة إزدهار هندسي عالي ومتطور تمثلت مدارسه (العملية) في مصلحة السكك الحديدية، وزارة الري، الإدارة الهندسية بمشروع الجزيرة والأشغال والإدارة المركزية للكهرباء والمياه، بجانب النقل البحري والنقل النهري وغيرها من المؤسسات الهندسية المكملة كالنقل الميكانيكي ومؤسسات أعمال الري والحفريات والطيران المدني.. وهلمجرا!!.. كان المهندس حديث التخرج وكذا المهندس الفني، يتم إستيعابه فور تخرجه- وأحياناً قبيل تخرجه- دون الحوجة لواسطة( أو لفقه التمكين)، فيتنقل تدريباً على أفرع إحدى هذه المؤسسات العملاقة ثم يبتعث ليتلقى تدريباً أعلى وأكثر عمقاً بأيٍ من دول العالم المتقدمين هندسياً ليعود ويزيد من كفاءة مؤسسته وبالتالي من رفعة وطنه.. والشواهد على ماذكرت، لا تحتاج لتقديم أو تنويه.. والآن ونحن قد توغلنا في العقد الثاني من المئة الأولى من سنوات الألفية الثالثة، حين ننظر ل(واقعنا) الهندسي، نشعر بالأسى والحسرة وتفتك بنا الحيرة لما آلت له مدارسنا الهندسية المذكور.. نتساءل، من الذي فعل بنا ذلك؟ من الذي دمر وباع كل معداتنا خردة، وبالكيلو جرام؟ من الذي أوقف الزراعة جرياً وراء سراب البترول (الذي إنقشع!!) ومن الذي (فرتق الرّي) ومن الذي باع الوطن ببيعه سودانير وسفننا التجارية؟؟ ومن الذي دمر تعاونيات النقل البري؟ ومن الذي شرد المهندسين والفنيين والعمال المهرة و(جوع) أسرهم.. من الذي جعل الأسر تخاف من توجيه أبنائها للتعليم الهندسي، لتفرخ الجامعات السودانية الآن (أرتالا) من الأطباء العطالى لتتضاعف الخسارة، وأية خسارة أكبر من (عدم نجاح الأبناء)، ومن الذي جعل مدينة (كانت متطورة) كودمدني تتحول لمدينة أشباح، متذيلة لترتيب المدن السودانية بل الأفريقية والعربية بعد أن كانت هي الرائدة؟؟.. (كلنا) إشتركنا في هذه الفعلة الشنيعة؛ ساستنا (على مر العصور)، الذين ما أن يجلسوا على كراسي السلطة فيركب كل منهم ماكينة مهندس.. ويدوِر فينا وفي كل حدود سلطاته؛ يبني هنا ويهدم هناك، يرصف هنا ويترك هناك، ينور هنا و(يظلم) هناك، ويسقي هنا ويعطش (جناك).. ثم يشاركهم المسؤولية، أعمامنا، من الرعيل الأول والرعيل الثاني من كبار المهندسين، بالسكوت تارة وبالإنصياع للترهات تارة أخرى!!.. ثم تأتي سياسة التمكين لتجهز على ما تبقى من أمل إستعادة نهضتنا الهندسية.. التمكين ولَّى (علينا) جموع ممن لم يعرفوا طريقاً لأيّة مؤسسة تعليمية هندسية.. مكنتهم الإنقاذ، فتمكنوا (بجدارة) من توصيلنا لهذا الحال.. فلا حول ولاقوة إلا بالله..