اليوم هادنت الحوادث فاطرح عبء السنين والقي عبء الداء ما زلت تهتف بالقديم وفضله حتى حميت أمانة القدماء إلى رحاب رب كريم وفي هدوء ويقين غادرنا دكتور منصور خالد تودعه آهات من الأسى وأنهار من دموع الأهل والأصدقاء، فالرجل صاحب علاقات إنسانية ممتدة، داخل الوطن وعبر قارات الدنيا، وله في قلوب عارفيه مكانة سامية اكتسبها برفيع ثقافته وسامي وطنيته وغزير علمه. برحيل منصور خبأ ضوء طالما أنار سماء المعرفة والثقافة والأدب الفخيم، وزين جدار الوطن بجليل أعماله وعظيم إنجازاته، في الحقائب الوزارية التي تقلدها. منصور هو ذلك المثقف المنتشر موسوعي المعرفة، كاتب قدير ودبلوماسي حصيف، وسياسي فطن، وموثق ومؤرخ يثق به ويعتمد على مصادره، وهو في ذلك ينشد الحقيقة من مظانها. ظل منصور محل جدل مستمر بين أقرانه ومجايليه، وهم بين مادح وقادح، وهو لا يعبأ بالعواصف، وهم يرون فيه شخصية فذة جديرة بالاحترام والتقدير لما للرجل من ملكات وقدرات، فهو صاحب فصاحة في اللسان وقوة في البيان وسلامة في المنطق وجزالة في العبارة، وكان يعزف على أوتار اللغة كأنما يعزف لحناً فريداً يطرب سامعيه. منصور محاور ذكي يختلف ويتفق دون تعصب أو جنوح، لا يهاتر ولا يجرح، عفة في اللسان، وسمو في النفس. قلم جرى الحقب الطوال فما جرى * يوماً بفاحشة ولا بهجاء كان منصور رجل مبدأ مدافعاً عن قناعاته متى ما رآها حقاً يتبعه لا يحيد عنه، عانى في عامه الأخير من تعقيدات طبية عديدة كانت قاسية عليه، وأشهد أنه كان في غاية الشجاعة والثبات، ولم تفارق محياه الهادئ تلك الابتسامة والكلمة الساخرة والأنس اللطيف. إن جاز لي سأكتب غير هذا، فمنصور حبيب إلى النفس والقلب يستحق الثناء والتمجيد، وتلك مشاعر غذاها بالمودة والإخاء الصادق، فله رحمة واسعة من الكريم ومغفرة من الرحمن الرحيم ليسكنه أعالي الجنان، وهو القائل في محكم تنزيله (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) صدق الله العظيم. وداعاً يا منصور وإلى اللقاء تحت عدالة قدسية الأحكام والميزان.