كنّا شبابا في مطلع العشرين من العمر، وفي مطلع التعليم الجامعي، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، نتوق الي كل إضافة معرفية بشغف جارف.. نستقبل في دار اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية كبار الاساتيذ، وكان من نصيب إحدى الليال الدكتور الطيب زين العابدين مدير المعهد الإسلامي الافريقي الذي غدا فيما بعد جامعة أفريقيا العالمية. لا أذكر الآن بعد مرور كل تلك السنوات موضوع الحديث في تلك الليلة، ولكن شيئا حدث فيها لم يبارح ذاكرتي، فقد تأخر أحد المتحدثين كان من المفترض أن يقاسم د. الطيب الندوة ، فإذا بالرجل يدعوني أنا الطالب الحَدِث للصعود الي المنصة مشاركا. لا أذكر طبيعة مشاركتي ولا نصيبها من الاستحسان أو الرفض، ولكن حادثة الدعوة حفرت في نفسي عميقا، واحدثت فرقاً في تقديري لذاتي ما أسهم بشكل كبير في مسار حياتي، فقد انقذف في روعي، واستكن في أعماق نفسي أن الرجل رأي فيَ متحدثاً يحمل اسهماً للمشاركة في مضمار الرأي. وتصديقي لثقة الرجل هو ما أسهم في تعلقي بعوالم الكلام والإعلام . تلك هي الوهلة الأولى للتعرف على الطيب زين العابدين. و غض النظر عن دلالة الواقعة الذاتية بالنسبة لي، فهي تعبير عن الرجل، خاصة ما يتوفر عليه من حسٍ تربوي يدفع به الشباب إلي منصات الشراكة، مهما كانت البضاعة مزجاة، وعن روح ديمقراطي لا يحقِرنّ من الرأي شيئا. وظللنا من بعد ذلك نتابع البروفسور الطيب زين العابدين في مشواره الطويل من العطاء الرصين. ولكن صلتي بالطيب الذي فارق دار الفناء الي دار البقاء بالامس، تكثفت وتعززت في الخمس عشرة سنة الأخيرة ، من موقعه المرموق أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة الخرطوم، وكاتبا سياسيا يزين الصفحات الأكثر تأثيراً في صناعة الرأي العام في أكثر سنوات السودان اضطرابا ، ومن موقعي مديراً لمكتب قناة الجزيرة بالخرطوم. فوجدت فيه قناة الجزيرة مستودعاً موثوقاً بالمعلومات، وقدرات قمينة بالتحليل الرصين، والرأي الناضح ، وتوازناً لا يختل بترهيب أو ترغيب.فالطيب لا يصدر فيما يكتب ويقول في الشأن العام عن حب أو كراهية.. ولا يجرمنّه الشنآن أن يتنكب جادة الرأي، ولهذا تلقى عنه من يحبهم أقسى سياط النقد ،واستقبل منه مناقضو أصوله الفكرية والسياسة سنداً ومؤازرة ما ظنّوا يوما أن يكون مصدرها. كثيراً مِنْ مَنْ تدق وسائل الإعلام أبوابهم في بلادنا طمعاً في التعليق على الأحداث على نجاعتهم في تخصصاتهم الأكاديمية ،لا يكاد أحدهم يتجاوز الاستناد على مخزونه التاريخي، باعداً النجعة عن مجري الحياة الساخن ، في مفارقة بينة مع ماجريات الأرض ووقائع الأحداث وتداعيتها اليومية، إلا القليل وفي المقدمة الطيب، فكان يجلس قبالة الكاميرا مزوداً بآخر الوقائع والتجليات، وحين يمتزج ذلك بعمق المنهج ووضوح الرؤية تخرج الإفادات التي تشبع متلقيها وتضفي عمقاً على التغطية الإخبارية ، ما جعله مقصداً تتنافس عليه وسائل الإعلام المرموقة. الحضور القوي للطيب في المشهد السياسي قرّبنا منه حتى أصبح مَمْتَحاً يومياً نهرع للتلقي عنه أو التثاقف معه، كلما ألمت بنا جائحة سياسية، في زمن أصبحت فيه بلادنا موطناً لكثير من الجائحات. قضت أرادة الله أن يقضي الطيب العام الأخير من عمره مستشفياً بين إنجلترا ومصر ، فبينما كان يصارع المرض هناك، كانت بلاده تصارع معركتها بين الثورة و نظام البشير، وكان حريصاً بالرغم من عضة ما يعاني أن يرفدها بسديد الرأي، علها تستمع إليه في عنفوان ضجيجها الثوري. وظني أن أعظم ما قدم إليها مخرجا من مأزقها اطروحته عن الديمقراطية التوافقية التي كتبها منذ سنوات.. ويبدو للمرء حين يرجع البصر كرتين انها الأنجع لإنقاذ البلاد من ضلالها. زرناه في منزله بصحبة شقيقي عثمان بعد عودته من مشفاه قبل حوالي الشهرين، وطالت الجلسة التي كعادته غاصت في همِّ الوطن ممزوجا بعصائر تجارب طويلة في عمر إمتد في اشتباك قوي مع الحياة ، يضربها الطيب أمثلةً في سياق لطيف بالمؤانسة. ومن عجب أن الإعياء الذي طبع جسده لم ينفذ إلى نفسه، فالطيب هو الطيب، حضوراً وتفاعلاً وإنتاجاً لأزهي وأجمل الأفكار وأعمقها..وإن ظلت تطفر بين ثنايا الأفكار مخاوف الرجل مما تندفع فيه البلاد من مزالق الفشل. وقد حكي لنا بحب عن جامعة أفريقيا العالمية التي سلخ أجمل سني عمره في خدمتها، فهو من عارفي فضلها، وأخبرنا كيف انخرط فور قدومه من رحلة الاستشفاء علي ما يعاني من أسقام وآلام، في أزمتها الأخيرة مع ثلة من زملائه، سعياً لخيرها بين إدارتها المستقيلة الممثلة في البروفسور كمال عبيد والبروفسور وزيرة التعليم العالي انتصار الزين صغيرون، ففي آخر لحظات العمر ظل يغرس فسائل العطاء. كان سعيداً بزيارتنا، بشوشاً بقدومنا، واجه الداء على ما يعرف من قساوة سرطان البنكرياس بشجاعة فارطة كأنه يسخر من موجات الألم، كان مستيقنا بلطف ربه ورحمته حتى أتاه اليقين.. لاترى منه لجلجةً ولا هروباً من مصير يعرف أنه يسارع إليه. ألا رحم الله البروفسور الطيب زين العابدين وأجزل له الرحمة والقبول، وبارك في عقبه. وألهم الأهل والتلاميذ وعارفي الفضل الصبر الجميل .