الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معالجة أزمة الميزان التجاري في السودان: العودة إلى الجذور
نشر في السوداني يوم 16 - 06 - 2020


مقدمة:
بدأت بوادر الأزمة الاقتصادية التى يشهدها السودان فى الوقت الراهن منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضى، والتى كانت سببا فى تدخل صندوق النقد الدولى فى إدارة الاقتصاد السودانى. تمثلت الأزمة فى عجز ميزان المدفوعات وتدهور سعر الصرف وارتفاع معدلات التضخم. تفاقمت تلك الأزمة بعد تبنى حكومة الانقاذ فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى سياسات التحرير الاقتصادى التى كانت هدفا لصندوق النقد الدولى. وقد انداحت تبعات تلك السياسات على كل مناحى الحياة، متمثلة فى تزايد العجز فى الميزان التجارى، وتدهور سعر الصرف، وارتفاع معدلات التضخم. وقد أسهمت عوامل أخرى فى تفاقم تلك الأزمة، أهمها استمرار الحروب والنزاعات المسلحة، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية التى فرضتها الولايات المتحدة على السودان فى عام 1997. فقد استنفدت الحرب والنزاعات المسلحة موارد هائلة، بينما حرمت العقوبات الأمريكية السودان من المعاملات المصرفية والتجارية مع دول العالم. وفى تطورات لاحقة، فرضت الحكومة بعض القيود على السحب من حسابات العملاء بالبنوك التجارية بهدف احتواء التضخم والتدهور الذى أصبح يلاحق سعر الصرف، مما أدى إلى فقدان الثقة فى الجهاز المصرفى الذى ظل يعانى أصلا من العقوبات الأمريكية. وقد أدت كل هذه العوامل إلى حالة من عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى، وتركت أثرا سلبيا على الاستثمار المحلى والأجنبى قد يستمر طويلا.
وبالرغم من أستمرار التدهور فى سعر الصرف وارتفاع معدلات التضخم، وفى ظل مشاكل متأصلة يعانى منها الاقتصاد تتمثل فى تدنى الانتاجية، وقصور البنى التحتية، وضعف استجابة العرض، قامت الحكومة الانتقالية مؤخرا بتنفيذ زيادة فلكية فى الأجور والمرتبات للعاملين فى القطاع العام بحجة زيادة قدرتهم الشرائية التى شهدت تدهورا كبيرا بسبب التضخم المستمر. تلك الزيادات ستتبعها دون شك زيادات مماثلة فى القطاع الخاص لتصبح الأزمة الاقتصادية أكثر تعقيدا.
يتقدم كاتب المقال بالشكر والتقدير لكل من البروفيسور على محمد الحسن والبروفيسور بكرى موسى عبد الكريم لما خصصاه من وقت لقراءة المسودة الأولى لهذا المقال وعلى الملاحظات القيمة التى أبدياها على بعض ما جاء فيه، مما ساعد على دعم الحجة. تقع مسئولية ما جاء فى المقال على الكاتب وحده.
نتناول فى هذا المقال مشكلة الميزان التجارى وما أدت إليه من تدهور مريع فى سعر الصرف وما تبعه من المعدلات العالية للتضخم، التى أدت بدورها إلى التدهور المتسارع فى الاقتصاد ومستوى المعيشة. يستند المقال إلى بيانات أولية من إصدارات متعددة من الموجز الاحصائى والتقاير السنوية لبنك السودان، ويستخدم الإحصاءات البسيطة لأغراض التحليل. يخلص المقال إلى أن السياسة الأفضل لمعالجة مشكلة الميزان التجارى، والذى يتمثل فى التحكم بصورة كاملة ومباشرة على كل الواردات من المواد الغذائية والغالبية العظمى من السلع الاستهلاكية المصنعة. هذه المجموعة من السلع تمثل فى المتوسط حوالى 45 فى المائة من متوسط الواردات خلال الفترة 2000-2019، بمتوسط بلغ حوالى 3.9 مليار دولار تمثل حوالى 67 فى المائة من عجز الميزان التجارى للعام 2019. يتطلب ذلك الإجراء صياغة برنامج اسعافى عاجل للأجل القصير يشارك فيه القطاع الخاص للنظر فى كيفية تحقيق زيادة مستدامة من الانتاج المحلى لتلك السلع، وهو هدف يتطلب إرادة قوية وعزيمة صارمة من الدولة والمجتمع على حد سواء، ليأكل الناس مما يزرعون ويلبسوا مما يصنعون. إن من شأن ذلك البرنامج تحقيق زيادة فى المواد الغذائية والسلع المصنعة محليا لإحلال الواردات منها، وتقليص فائض الطلب على النقد الأجنبى بدرجة مقدرة لإعادة سعر الصرف إلى مساره الصحيح. عندها يتراجع معدل التضخم، وترتفع القوة الشرائية للأجور دون الحاجة إلى زيادتها وطباعة النقود لتمويلها.
نبدأ المقال باستعراض اسباب تفاقم العجز فى الميزان التجارى، وهو الأهم من بين مكونات ميزان المدفوعات بالنسبة للسودان، وذلك من خلال مقاربتين: تستند المقاربة الأولى إلى أن الميزان التجارى هو عبارة عن الصادرات ناقصا الواردات من السلع، بينما تستند المقاربة الثانية إلى أن الميزان التجارى هو أيضا عبارة عن الناتج الإجمالى (العرض التجميعى) ناقصا الإنفاق (الطلب التجميعى) وذلك استنادا إلى متطابقة الدخل القومى لاقتصاد مفتوح للتجارة الدولية. من ثم نستعرض بإيجاز سياسات معالجة الاختلال فى الميزان التجارى، وتتمثل فى سياسات مالية ونقدية، وسياسات تخفيض سعر الصرف. على ضوء التجارب السابقة للسودان مع هذه السياسات، ولتى تعتبر فاشلة بكل المقاييس، نسوق حجة بأن سياسة التحكم المباشر على الواردات تمثل الخيار الأفضل للسودان فى ظل ظروفه الاقتصادية الراهنة لتصحيح العجز فى الميزان التجارى. كذلك نستعرض أهم الصعوبات التى تواجه ذلك الخيار من السياسات والإجراءات اللازمة لتحقيق أهدافها. نختم المقال ببعض الملاحظات.
أسباب العجز فى الميزان التجارى:
نركز فى هذا المقال على الميزان التجارى، وهو الأكثر أهمية للسودان بسبب ضعف انسيابات رؤوس الأموال وكذلك ضعف الصادرات والواردات من الخدمات. وكما هو معلوم، يكون الميزان التجارى فى حالة عجز إذا كانت الواردات أكبر من الصادرات. باستخدام متطابقة الدخل القومى لاقتصاد مفتوح للتجارة الدولية، يمكن توضيح أن العجز فى الميزان التجارى (الواردات أكبر من الصادرات) يعنى تلقائيا أن الطلب التجميعى (الانفاق) أكبر من العرض التجميعى (الانتاج). بمعنى آخر، فإن العجز فى الميزان التجارى يعنى أن الاقتصاد يستورد بأكثر مما يصدر أو ينفق بأكثر مما ينتج. عليه، فإن إعادة التوازن للميزان التجارى تتطلب اتباع سياسات تهدف إلى تقليص الواردات (أو الطلب التجميعى) أو ترقية الصادرات (أو العرض التجميعى)، أو الاثنين معا. فيما يلى نتناول أسباب العجز، مع الأخذ بعين الاعتبار التداخل بين الانتاج والصادرات من جهة، وبين الانفاق والواردات من الجهة الأخرى.
نبدأ بتناول أسباب العجز فى الميزان التجارى من جانب الصادرات والعرض التجميعى ممثلا فى الناتج المحلى الاجمالى. لهذا الغرض، يمكن تصنيف القطاعات الاقتصادية إلى أربعة، هى قطاع النفط والمعادن، والقطاع الزراعى، والقطاع الصناعى، وقطاع الخدمات. يوضح الشكل (1) هيكل الناتج المحلى الاجمالى خلال الفترة 2001-2017، وهى الفترة التى توفرت فيها بيانات من البنك المركزى. ما زال قطاع الخدمات يهيمن على الناتج المحلى الإجمالى، بنسبة بلغت فى المتوسط حوالى 48 فى المائة خلال الفترة 2001-2017، يليه القطاع الزراعى بنسبة 33 فى المائة، بينما يمثل القطاع الصناعى، الذى يفترض أن يكون المحرك الحقيقى للنمو فى كل القطاعات، حوالى 12 فى المائة فقط من متوسط الناتج المحلى. ويأتى قطاع النفط والمعادن فى المرتبة الأخيرة بنسبة مساهمة بلعت فى المتوسط 9 فى المائة خلال الفترة المذكورة وذلك بسبب التراجع الذى سجله القطاع بعد انفصال الجنوب.
المصدر: استنادا إلى بيانات التقارير السنوية للبنك المركزى (إصدارات متعددة).
ذكرنا أن بوادر الأزمة الاقتصادية فى السودان بدأت فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى عندما تدخل صندوق النقد الدولى بحزمة سياساته المعروفة لإدارة الاقتصاد بهدف معالجة العجز فى ميزان المدفوعات وتحقيق النمو والاستقرار الاقتصادى. إلا أن تلك الحزمة من السياسات فشلت فى تحقيق تلك الأهداف إذ أنها لم تأخذ بعين الاعتبار المشاكل الهيكلية التى يعانى منها الاقتصاد والتى تمثلت بصفة أساسية فى قصور البنى التحتية، وتدنى الانتاجية، وارتفاع تكلفة الانتاج بخاصة للمدخلات المستوردة، وتدنى التنافسية العالمية. لقد حالت هذه المشاكل دون استجابة العرض (وبالتالى الصادرات) لتلك السياسات. وقد تفاقمت تلك المشكلة بتصاعد العجز فى الميزان التجارى منذ أن تبنت حكومة الإنقاذ تطبيق سياسات التحرير الاقتصادى فى أوائل التسعينيات، والتى لم تكن هى الأخرى موفقة، إذ أنها تجاهلت مرة أخرى مشكلة ضعف (إن لم يكن انعدام) استجابة العرض التجميعى والصادرات لتلك السياسات، بل أضافت إليها هذه المرة مشاكل جديدة تمثلت فى الرسوم الإدارية التى أصبحت تفرض على السلع عند العديد من نقاط العبور بين الولايات والمحليات، إضافة إلى القصور فى إدارة المؤسسات الانتاجية. هذا إضافة إلى فشل حكومة الانقاذ، رغم المحاولات المتكررة، انشاء مظلات اجتماعية فاعلة لحماية الفقراء والشرائح الضعيفة من اثار تلك السياسات، والتى أوصى بها إجماع ما بعد واشنطون (The Post-Washington Consensus).
يوضح الشكل (2) أن الزيادة فى الناتج المحلى الزراعى والصناعى خلال العشرون سنة الماضية كانت متواضعة للغاية، بينما تصاعد قطاع الخدمات وتراجع قطاع النفط والمعادن بصورة ملحوظة. لهذا السبب، ظلت التركيبة الهيكلية للاقتصاد ثابتة كما كانت عليه منذ عقود مضت دون تغيير يذكر بالرغم من دخول النفط فى المعادلة الاقتصادية منذ 1999.
المصدر: استنادا إلى بيانات التقارير السنوية للبنك المركزى (إصدارات متعددة).
خلاصة الأمر، بالرغم من تطبيق العديد من حزم السياسات الاقتصادية الكلية لعقود من الزمن، إلا أن تلك السياسات لم تكن لوحدها كافية لتحقيق أهدافها، إذ لم تشهد القطاعات الانتاجية نموا يذكر كما لم يحدث أى تغير هيكلى فى الاقتصاد. ويرجع السبب فى ذلك إلى أن تلك السياسات لم تسبقها جهود حثيثة لإزالة المعوقات الهيكلية التى حالت دون استجابة الانتاج لها. لقد أتيحت فرصة نادرة لإنشاء بنية تحتية تدعم العملية الانتاجية، وذلك عندما تمكنت الحكومة من استخراج وتصدير النفط رغم العقوبات الاقتصادية الأمريكية التى فرضت على السودان فى 13 نوفمبر 1997 . وبالرغم من أن النفط أصبح يسجل حضورا قويا ومتزايدا فى الاقتصاد منذ العام 1999، فقد أخفقت الحكومة فى توجيه تلك الموارد لمعالجة المشاكل الهيكلية الرئيسة للاقتصاد وإخراج القطاعات الانتاجية فى الزراعة والصناعة من حالة الكبت التى تعانيها. وقد ساهمت عوامل أخرى فى تفاقم المشكلة الاقتصادية، من أهمها استمرار الحروب والنزاعات المسلحة، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان، والتى أدت إلى استنفاد الموارد، وإلى حالة من عدم الاستقرار السياسى والاجتماعى أدت بدورها إلى هروب الاستثمارات الوطنية.
ما زلنا فى جانب العرض، ونتناول الآن مدى استجابة الصادرات للسياسات الاقتصادية. لهذا الغرض، يمكن تصنيف الصادرات إلى نفط ومشتقاته (تشمل بترول خام، بنزين، كيروسين، غاز طبيعى، نافتا، فبرنس، غاز مخلوط، دبزل)، ومنتجات زراعية (تشمل قطن ومخلفاته، سمسم، صمغ عربى، فول سودانى، كركدى، حب بطيخ، سنمكة، حنة، ذرة، بذور عباد شمس، زيت فول سودانى، سكر مولاس، أمباز، خضروات وفواكه)، ومنتجات حيوانية (تشمل حيوانات حية مثل الضأن، والماعز، والإبل، إضافة إلى اللحوم والجلود)، ومعادن (تشمل الذهب، الكروم، خردة حديد، خردة نحاس، خردة رصاص)، إضافة إلى صادرات أخرى (تشمل فى بعض السنوات منتجات مصنعة مثل السكر).
لقد شهد هيكل النجارة الخارجية تغيرا كبيرا بعد دخول النفط فى المعادلة الاقتصادية، إذ تصاعدت نسبة عائدات الصادرات النفطية فى إجمالى الصادرات لتمثل 75 فى المائة فى العام 2000 وترتفع إلى أكثر من 95 فى المائة فى العام 2008. ونتيجة لهذه التطورات قفز إجمالى الصادرات بعد بداية تصدير النفط من 1.4 مليار دولار فى العام 2000 إلى أكثر من 11 مليار دولار فى العام 2008، بينما لم يتجاوز متوسط إجمالى الصادرات 700 مليون دولار قى العام طيلة العقود التى سبقت تصدير النفط. فى المتوسط، بلغت الصادرات النفطية أكثر من 66 فى المائة من متوسط الصادرات خلال الفترة 2000-2019 بينما بلغت الصادرات التقليدية (منتجات حيوانية وزراعية) حوالى 18 فى المائة فقط من متوسط الصادرات (الشكل 2). وكما كان الحال للإنتاج (العرض التجميعى)، نلاحظ من الشكل أن الزيادة فى الصادرات التقليدية خلال تلك الفترة كانت متواضعة هى الأخرى لنفس الأسباب، وربما أيضا لأسباب تتعلق بتعرض الاقتصاد للمرض الهولندى.
المصدر: صمم استنادا إلى بيانات الموجز الاحصائى للتجارة الخارجية، إدارة الاحصاء، بنك السودان
وكنتيجة طبيعية لتراجع الصادرات النفطية منذ العام 2009 بعد انفصال الجنوب، قامت الحكومة بتشجيع أنشطة التعدين الأهلى للذهب لإنعاش الصادرات غير النفطية فى محاولة لتعويض ما فقدته من النقد الأجنبى بعد خروج النفط من المعادلة الاقتصادية. وحسب احصاءات بنك السودان، تصاعدت عائدات صادرات الذهب من النقد الأجنبى من 414 مليون دولار فى العام 2009 (تمثل أكثر من 5 فى المائة من إجمالى الصادرات) إلى 2.2 مليار دولار فى العام 2012 (تمثل حوالى 54 فى المائة من إجمالى الصادرات) لتنخفض إلى أكثر من 1.2 مليار دولار فى العام 2019 تمثل أكثر من 38 فى المائة من إجمالى الصادرات. فى المتوسط بلغت صادرات الذهب أكثر من 700 مليون دولار قى السنة خلال الفترة 2000-2019، تمثل أكثر من 13 فى المائة من متوسط إجمالى الصادرات خلال تلك الفترة. إلا أن تلك المحاولات لم تكن كافية، إذ أن التراجع الهائل الذى شهدته الصادرات النفطية بعد انفصال الجتوب لم يصاحبه تغير مماثل فى صادرات الذهب والصادرات التقليدية (غير النفطية)، فى حين ظلت الواردات عند مستوياتها العالية ليسجل الميزان التجارى عجزا مستمرا خلال تلك الفترة (الشكل 3).
المصدر: استنادا إلى بيانات الموجز الاحصائى للتجارة الخارجية، إدارة الاحصاء، بنك السودان.
فى جانب الطلب التجميعى (الانفاق)، أدت سياسات التحرير الاقتصادى وتنامى صادرات البترول والذهب إلى تصاعد مضطرد فى الواردات وإلى إزاحة المنتجات الوطنية تدريجيا من الأسواق المحلية، مما انعكس سلبا على القطاع الصناعى وهزم محاولات إحلال الواردات. ففى ظل العقبات الكبيرة التى ظلت تواجه التوسع فى الصادرات التقليدية، أدت تلك السياسات إلى ارتفاع كبير فى الواردات وإلى مزيد من العجز فى ميزان المدفوعات وتدهور فى سعر الصرف والتنافسية العالمية للصادرات التقليدية، وإلى تصاعد معدلات التضخم.
نتناول الآن التطورات التى شهدتها الواردات خلال الفترة 2001-2019، وربطها بالسياسات الاقتصادية السائدة فى تلك الفترة، وكذلك بتطورات الطلب التجميعى، بالتركيز على الاستهلاك والانفاق الحكومى، حيث استبعد الانفاق الاستثمارى للأسباب آنفة الذكر. لهذا الغرض، يمكن تصنيف الواردات إلى ثلاثة مجموعات رئيسة. تتكون المجموعة الأولى من السلع الاستهلاكية (وتشمل المنسوجات والسلع المصنعة والمواد الغذائية وتتكون من العديد من السلع تشمل السكر، والشاى، والبن، ومنتجات الألبان، والخضروات ومنتجاتها، والزيوت الحيوانية والنباتية، والمشروبات والتبغ، وأخرى). المجموعة الثانية هى المنتجات البترولية والمواد الخام، والأدوية والمنتجات الكيماوية، بينما تتكون المجموعة الثالثة من الآلات والمعدات ووسائل النقل، إضافة إلى واردات أخرى (تشمل الكهرباء منذ العام 2017).
يوضح الشكل (4) تركيبة الواردات، حيث تمثل الأعمدة المتوسط السنوى لكل مجموعة كنسبة من متوسط إجمالى الواردات خلال الفترة 2001-2019. نشير فى البدء إلى أن واردات السودان من النفط كانت تتراوح بين 400 إلى 500 مليون دولار سنويا. وبعد أن أصبح السودان دولة منتجة للنفط، استطاع تغطية الجزء الأكبر من تلك الاحتياجات بالانتاج المحلى منذ العام 1999م لينتقل بعدها إلى مرحلة التصدير. غير أن الواردات النفطية تصاعدت مرة أخرى كنتيجة طبيعية لخروج النفط من المعادلة الاقتصادية لتصل إلى حوالى 2.0 مليار دولار فى العام 2019. وقد بلغ متوسط تلك الواردات أكثر من 876 مليون دولار تمثل اكثر من 11 فى المائة من متوسط إجمالى الواردات خلال الفترة 2001-2019.
المصدر: استنادا إلى بيانات الموجز الاحصائى للتجارة الخارجية، إدارة الاحصاء، بنك السودان.
واستنادا إلى بيانات البنك المركزى، فقد بلغ المتوسط السنوى لواردات السلع الاستهلاكية حوالى 3.5 مليار دولار خلال الفترة المذكورة، وهى تمثل 45 فى المائة من المتوسط السنوى للواردات، وحوالى 67 فى المائة من عجز الميزان التجارى للعام 2019. تعتبر هذه المستويات والنسب من الواردات لهذا النوع من السلع عالية بكل المقاييس فى اقتصاد تتوفر فيه كل المقومات ليس فقط لانتاج تلك السلع وتحقيق الاكتفاء الذاتى منها، وإنما أيضا لتصدير كميات كبيرة منها. فيما يلى نستعرض تفسير تلك الاحصاءات، بالتركيز على مكونات الطلب التجميعى، بخاصة الاستهلاك والانفاق الحكومى.
لقد شهد النمط الاستهلاكى تحولا كبيرا نحو السلع المستوردة خلال الثلاثة عقود الماضية منذ تطبيق سياسات التحرير الاقتصادى مرورا بفترة انتاج وتصدير النفط والذهب. فقد ارتفعت واردات المواد الغذائية لوحدها إلى 2.6 مليار دولار فى 2019، وبلغ متوسط تلك الواردات 1.6 مليار دولار تمثل أكثر من 20 فى المائة من المتوسط السنوى للواردات خلال الفترة 2001-2019. وما يثير الدهشة أن هذه الواردات (مثل القمح والدقيق، والألبان السائلة والمجففة، والخضروات والفواكه، والمشروبات، والسكريات، …. إلخ)،أصبحت تعج بها الأسواق، بينما تتوفر كل المقومات لانتاجها محليا. والدهشة الأكبر هى أن تلك الواردات تشمل الخضروات والفواكه ومنتجاتها، فى الوقت الذى يمكن فيه للمزارع فى كسلا وكردفان وجبل مرة والنيل الأزرق والجزيرة والشمالية توفير مختلف أنواع هذه المنتجات.
إن الاتجاه المتصاعد لهذه الواردات، كما يوضح الشكل (5)، يؤكد حقيقة أن التغير الكبير الذى شهده النمط الاستهلاكى للمجتمع منذ تطبيق سياسات التحرير الاقتصادى، فى طريقه للاستدامة. فقد ترك الناس الذرة ليحل محله القمح ومشتقاته. وهكذا دارت الدائرة على المواد الغذائية المنتجة محليا لتحل محلها الواردات من تلك المواد بكل أصنافها. كذلك، ظهرت فى اسواق المدن والقرى والحضر والريف سلع استهلاكية لم تكن معهودة فى السودان، وامتلأت بها محلات البيع بالتجزئة والبيع الإجمالى، فى حين أن العديد منها لا يشاهد حتى فى أسواق بلدان متقدمة بمستويات دخل عالية، مثلها فى ذلك مثل السيارات الفارهة. ليس ذلك فحسب، فقد أصبح الاستهلاك التظاهرى والتفاخرى السمة السائدة فى المجتمع، حتى فى أوساط الطبقة الفقيرة، والتى تمثل الأغلبية، مما يشير إلى أن الانفاق الاستهلاكى قد تخطى القدرات المادية للمجتمع.
المصدر: استنادا إلى بيانات الموجز الاحصائى للتجارة الخارجية، إدارة الاحصاء، بنك السودان.
إن التغير فى النمط الاستهلاكى للمجتمعات لصالح السلع المستوردة ظل يمثل أحد الأهداف الرئيسة لمنظمات الإغاثة ومؤسسات وبرامج العون الغذائى الأجنبى ومن يدور فى فلكها، وهو جزء من محاولات فتح الأسواق لمنتجات الشركات العالمية. وفى كتابها بعنوان "خلق الفقر فى العالم" (The Creation of World Poverty)، شرحت تيريسا هيتر (Terresa Hayter) كيف أن معونات الغذاء قد استخدمت لإحداث تغيرات هائلة فى النمط الاستهلاكى للشعوب خدمة لمصالح الدول التى تقوم بتقديم العون.الغذائى فإذا كان ذلك هو هدف برامج الإغاثة من تقديم العون الأجنبى، فإن التحول الذى شهده النمط الاستهلاكى لصالح الواردات نتيجة سياسات وطنية يقدم خدمة مجانية لتلك المنظمات فى تحقيق أهدافها.
تمثل السلع المصنعة هى الأخرى نسبة مقدرة من الواردات تبلغ أكثر من 20 فى المائة من متوسط الواردات خلال الفترة، وهى ما يعادل أكثر من 1.6 مليار دولار. كذلك، تمثل المنسوجات حوالى 4 فى المائة من متوسط الواردات خلال الفترة لتبلغ فى المتوسط 290 مليون دولار. إن شأن هذه الواردات فى تأثيرها على النمط الاستهلاكى للمجتمع هو شأن تأثير المواد الغذائية. فقد امتلات الأسواق بكل أنواع تلك السلع، مثل الملابس بأنواعها، والأحذية، ومعجون وفرش الأسنان، ومناديل الورق، والروائح والعطور بأنواعها، والصابون بأنواعه، ومستحضرات التجميل (المكياج والدهانات، والمراهم بكل أنواعها)، والملبوسات الرجالية والنسائية بأنواعها، والأثاث بأنواعه، والسيارات الفارهة، ناهيك عن معدات الكهرباء والإنارة وغيرها. تجدر الإشارة كذلك إلى أن الواردات من السلع المصنعة تصنف بأنها من النوعية الرديئة، مما يعنى سرعة وتيرة استيراد قطع الغيار لها.
خلاصة الأمر أن المتوسط السنوى للواردات من المواد الغذائية والسلع المصنعة قد بلغ حوالى 45 فى المائة من متوسط الواردات خلال الفترة، بقيمة بلغت حوالى 3.9 مليار دولار، وهى تمثل حوالى 67 فى المائة من عجز الميزان التجارى للعام 2019. إن معالجة المشاكل التى تقف عائقا للانتاج فى المدى القصير على أقل تقدير يمكن أن تؤدى إلى استرداد تلك الحصة من الواردات لحظيرة الانتاج الوطنى، وهى ليست مسألة صعبة، لكنها تتطلب العزيمة والإرادة السياسية والاجتماعية. ومن شأن خطوة كهذه أن تسهم فى تقليص الطلب على النقد الأجنبى، الأمر الذى يؤدى إلى استقرار سعر الصرف والتحكم فى التضخم. عندها تتحسن القيمة الحقيقية (القوة الشرائية) للأجور والمرتبات دون حاجة إلى زيادتها تفاديا لما تترتب عليه الزيادة من عواقب وخيمة على الاقتصاد. ليس ذلك فحسب، فإن من شأن مقابلة الطلب على تلك السلع بإلانتاج المحلى أن تكون له آثار ايجابية مضاعفة على النمو ومعدلات التشغيل .
من المعلوم أن زيادة الطلب التجميعى يمكن ان تؤدى إلى تحفيز الانتاج المحلى وخلق فرص للعمل وتحريك الاقتصاد إذا كان ذلك الطلب موجها نحو السلع المنتجة محليا. إلا أن توجه الاستهلاك نحو الخارج (للواردات) يؤدى إلى نتائج عكسية، إذ أنه
بالاضافة إلى الاستهلاك، يمثل الانفاق العام أحد المكونات الرئيسة للانفاق الكلى (الطلب التجميعى) وللأزمة الاقتصادية. إن التوسع الكبير الذى شهده الانفاق العام منذ 1990 كان مذهلا وشمل كل مناحى الحياة فى مجالات البنى التحتية المحلية والقومية (إنشاء الطرق، والجسور، والموانئ، والمطارات، والسدود، وشبكات الكهرباء والمياه)، والتوسع الأفقى المذهل فى التعليم العالى (إنشاء الجامعات ومؤسسات التعليم العالى)، والتوسع فى التعليم العام (إنشاء المدارس فى المدن والقرى)، والتوسع فى الخدمات الصحية (انشاء المستشفيات والمرافق الصحية الأخرى فى المدن والقرى)، والتوسع فى الحكم الاتحادى والولائى (أنشاء الولايات والمحليات والوحدات الإدارية المحلية)، إضافة إلى التوسع الكبير فى الأجهزة الأمنية (بأنواعها المختلفة). وقد كان استخراج وتصدير البترول بمثابة حافز شجع الحكومة للتوسع الهائل فى الانفاق العام، حيث أصبحت مساهمة عائدات الصادرات النفطية تمثل نسبة مقدرة من موارد الميزانية العامة منذ العام 2000، مرتفعة من 41.0 فى المائة عام 2001 إلى أكثر من 48.0 فى المائة عام 2004.
ودون الخوض فى التفاصيل، نشير إلى أن الانفاق فى مجالات ذات صلة بالأمن القومى قد فرضته ظروف داخلية وخارجية، وكان من بين الأولويات. فقد أدت الحروب والنزاعات المسلحة وغير المسلحة فى العديد من المناطق إلى تصاعد كبير فى ذلك النوع من الانفاق العام. من ناحية أخرى، لم تكن الظروف الاقتصادية للسودان تسمح بالتوسع الهائل فى مجالات الانفاق الأخرى. على سبيل المثال، لم يكن التوسع فى الحكم الاتحادى والولائى من الأولويات، وأدى إلى ترهل إدارى لم يسبق له مثيل. أما التوسع الهائل فى التعليم العالى، فقد كان أفقيا وليس نوعيا (رأسيا)، وأدى إلى خلق جيوش من المتعطلين عن العمل معظمهم بمؤهلات ضعيفة. لذلك لم يسهم التوسع فى التعليم العالى فى بناء رأس المال البشرى بالنوعية المطلوبة لأغراض التنمية، مما يعنى أن الانفاق فى ذلك المجال كان إلى درجة كبيرة مجرد إهدار للموارد. وبالرغم من الجهود التى بذلت فى مجال البنى التحتية، التى كان من المفترض أن تكون فى فائمة الأولويات، لم يكن الانفاق فى ذلك المجال فعالا هو الآخر لأسباب قد ترجع لغياب التخطيط الاستراتيجى، والتسرع فى التنفيذ، والمساحة الهائلة للسودان. لذلك لم يسهم الانفاق فى ذلك المجال هو الآخر فى بناء رأس المال المادى بالنوعية والمستويات المطلوبة للتنمية. وفى غياب رأس المال البشرى والمادى، ظلت استجابة الانتاج والعرض التجميعى ضعيفة لكل الإجراءات والسياسات التى كانت تهدف لإحداث التنمية خلال الثلاثة عقود الماضية.
تلك هى الأسباب الجوهرية للأزمة الاقتصادية الراهنة التى يشهدها السودان، والتى يعكسها العجز الكبير والمستمر فى الميزان التجارى، والتدهور الهائل فى سعر الصرف، والارتفاع الفلكى فى الأسعار ومعدل التضخم، والتراجع الكبير فى الاقتصاد. لقد تفاقم ذلك العجز منذ العام 2013 بسبب التدهور الكبير فى الصادرات بعد يعمل على مضاعة الانتاج وخلق فرص للعمل فى الدول المصدرة لتلك السلع (مضاعف الصادرات موجب)، بينما يعمل على تقليص الانتاج وفرص العمل فى الدول المستوردة (مضاعف الواردات سالب).
خروج النفط من المعادلة الاقتصادية، فى حين استمرت الواردات عند مستوياتها العالية حتى بعد التراجع الهائل الذى شهدته صادرات النفط بعد انفصال الجنوب (الشكل 5).
المصدر: استنادا إلى بيانات الموجز الاحصائى للتجارة الخارجية، إدارة الاحصاء، بنك السودان.
إذن، فى ظل الصعوبات التى ظلت تقف حائلا دون الزيادة فى الانتاج الكلى (العرض التجميعى)، فإن تصاعد الطلب التجميعى (بخاصة الانفاق الاستهلاكى والانفاق العام) إلى مستويات تفوق مستويات الانتاج الكلى (العرض التجميعى) تعنى مزيدا من التدهور (زيادة العجز) فى الميزان التجارى، مما يعنى مزيدا من فائض الطلب على النقد الأجنبى، وتدهورا مستمرا فى سعر الصرف. ويعتبر تدهور سعر الصرف بمثابة ضريبة شاملة تقع على الكل (غير انتقائية)، باعتباره يؤدى إلى التضخم الذى لا يميز بين الغنى والفقير، والموظف والعامل، والوزير والغفير. وكما هو معلوم، بإمكان بعض الفئات الاجتماعية التكيف مع التضخم، بينما تعجز فئات أخرى عن ذلك. الفئة الأولى يمثلها أصحاب العمل والتجار وكل من له نشاط فى القطاع الخاص، الذين يمتلكون وسائل التكيف مع التضخم وبسرعة كبيرة، بينما يمثل الفئة الثانية أصحاب الأجور والرواتب فى القطاعين العام والخاص، وهم من بين أكثر المتضررين من التضخم باعتبارهم لا يمتلكون وسائل التكيف مع التضخم. إلا أن ذلك لا يعنى بالضرورة أن أى إجراءآت أخرى لتحسين مستوى المعيشة، بما فى ذلك زيادة الأجور والمرتبات، تمثل حلا ناجعا للمشكلة التى تواجه تلك الفئات الاجتماعية. إذن، ما هو الحل؟
سياسات معالجة العجز فى الميزان التجارى:
تعتبر السياسات المالية والنقدية الانكماشية من بين السياسات الاقتصادية الكلية التى يمكن تطبيقها لتصحيح العجز فى الميزان التجارى، وذلك من خلال زيادة الانتاج (أو التوسع فى الصادرات) وتقليص الانفاق (أو تقليص الواردات). تتمثل السياسات النقدية الانكماشية فى تقليص عرض النقود وزيادة سعر الفائدة، بينما تتمثل السياسات المالية الانكماشية فى تقليص الانفاق الحكومى وزيادة ضريبة الدخل. من الناحية النظرية، يؤدى تقليص عرض النقود (من خلال عمليات السوق المفتوحة) إلى تقليص النقود لدى الأفراد والمؤسسات، مما يؤدى إلى تقليص الاستهلاك. أما زيادة سعر الفائدة، وهو ليس من أدوات السياسة الاقتصادية المستخدمة فى السودان لأسباب متعددة، فهى تعنى ارتفاع تكلفة رأس المال (القروض) مما يؤدى إلى تقليص الطلب على الاستثمار. كذلك، يمكن أن تؤدى زيادة سعر الفائدة إلى تقليص الاستهلاك الحالى (للحصول على مستوى أعلى من الاستهلاك فى المستقبل من خلال العائد من استثمار المدخرات الناجمة عن زيادة سعر الفائدة). أخيرا، تشمل تلك السياسات أيضا تقليص الانفاق الحكومى بصورة مباشرة. كل هذه السياسات والاجراءات تؤدى إلى تقليص الطلب التجميعى فى الاقتصاد، ولذلك سميت بحزمة سياسات إدارة الطلب (Demand management policies). تؤدى هذه السياسات إلى تقليص الفجوة بين العرض التجميعى والطلب التجميعى، مما يعنى تقليص العجز فى الميزان التجارى. إلا أن من بين عيوب هذه السياسات أنها تكون فعالة فى المدى الطويل، إذ أن استجابة المتغيرات الاقتصادية الكلية لها والتكيف معها تستغرق بعض الوقت. هذا إضافة إلى أنها تؤدى إلى إنكماش النشاط الاقتصادى وإجهاض هدف معالجة عجز الميزان التجارى.
من ناحية أخرى، تعنى سياسات تخفيض سعر الصرف بصفة أساسية بتغيير نمط الانفاق وتحويله من السلع المستوردة إلى السلع المنتجة محليا (سياسة إحلال الواردات)، وكذلك إلى تحفيز الصادرات. يؤدى تخفيض سعر الصرف إلى تعديل الأسعار النسبية للصادرات والواردات بزيادة الأسعار المحلية للواردات (ومن ثم تقليص الطلب المحلى عليها)، وإلى تقليص الأسعار العالمية للصادرات (ومن ثم زيادة الطلب العالمى عليها)، مما يؤدى إلى تصحيح العجز فى الميزان التجارى. إلا أن استجابة الانتاج والصادرات لتلك السياسات تتطلب توفر البنى التحتية الملائمة، إضافة إلى التحسن فى الانتاجية التى تؤدى إلى تقليص تكلفة الانتاج وإلى تحسن التنافسية العالمية للصادرات. وقد أجريت العديد من الدراسات حول اثر تلك السياسات على الميزان التجارى للسودان منذ أول محاولة جادة لصندوق النقد الدولى للتدخل فى الشأن الاقتصادى السودانى فى العام 1977. خلصت هذه الدراسات فى مجملها إلى أن سياسات تخفيض سعر الصرف التى تبنتها الحكومة خلال الثمانينيات من القرن الماضى كانت كارثية للاقتصاد السودانى، إذ تمثلت نتائجها فى ارتفاع معدلات التضخم نتيجة لضعف استجابة العرض بسبب البنى التحتية المتهالكة والانتاجية المتدنية، وسوء إدارة الموارد، والإجراءات الادارية العقيمة .
لمزيد من التفاصيل فى هذا الشأن يمكن الرجوع إلى مساهمات كل من البروفيسور على محمد الحسن، الدكتور محمد نور الدين حسين، والبروفيسور على عبد القادر على، والبروفيسور حاتم أمير مهران، على سبيل المثال لا الحصروغيرها من النقد الأجنبى. فإذا كان التدهور الذى ظل يشهده سعر الصرف منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضى لمدة لا تقل عن 40 عاما) لم يحرك من سكون النشاط الاقتصادى (عدم استجابة العرض لأى تحركات فى سعر الصرف والأسعار)، تصبح تلك القيود بمثابة الخيار الوحيد لإعادة سعر الصرف إلى مساره الحقيقى وإعادة الثقة فى الجنيه السودانى، وإعادة المجتمع إلى جذوره.
إن آلية تطبيق هذه السياسة معلومة لأهل الشأن، وتتمثل باختصار فى تصنيف السلع حسب الأهمية. فى حالة السودان، تتصدر تلك القائمة الواردات الأساسية مثل الأدوية، تليها مدخلات الانتاج، والمعدات والآليات، ووسائل النقل العامة،… إلخ. بمجرد حصر تلك السلع وتحديد الكميات المطلوبة للسوق المحلى، وكذلك اجمالى النقد الأجنبى المطلوب لاستيرادها، تقوم السلطات المعنية باصدار تراخيص استيراد تلك السلع بالكميات المحددة، وفرض حظر على كل السلع المتبقية. فى حالة السودان، تشمل قائمة الحظر كل السلع الغذائية والعديد من السلع المصنعة التى يمكن انتاجها محليا، إضافة إلى كل السلع الكمالية.
ويمكن دعم تلك السياسات بالتحكم على الانفاق الحكومى. هنالك العديد من أوجه الانفاق الحكومى التى يمكن تقليصها بصورة مباشرة وعاجلة لتحقيق نتائج سريعة، من أبرزها الانفاق على مؤسسات الحكم الاتحادى والولائى، التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية، فى المركز والولايات. فبالرغم من أهميته فى تقليص ما يسمى بالظل الإدارى، إلا أن الحكم اللامركزى يتطلب موارد ضخمة ليس فى مقدور الحكومة توفيرها. كذلك، يمكن ايقاف تنفيذ العديد من مشروعات التنمية بصورة جزئية أو كلية إلى حين ترتيب الوضع الاقتصادى، والتركيز على دعم قدرات المؤسسات الانتاجية المعنية بتحقيق أهداف الميزان التجارى. وفى حين أن تقليص المخصصات المالية للانفاق الحكومى يعتبر من الأهمية بمكان، إلا أن الأمر الأكثر أهمية فى هذا الشأن يتمثل فى رفع كفاءة استخدام الموارد المخصصة للمؤسسات والمشروعات، وكذلك ضبط ومراقبة الصرف عليها منعا للفساد.
ومما لا شك فيه أن سياسة التحكم المباشر لها العديد من النواقص، من أبرزها أنها تؤدى إلى تباطؤ فى الانتاج يرتبط ببطء الإجراءات الادارية (مثل استخراج تراخيص الاستيراد والتحويلات المصرفية للنقد الأجنبى لأغراض الاستيراد)، وظهور سوق سوداء لتراخيص الاستيراد (تؤدى بدورها إلى الفساد)، وانتعاش السوق السوداء للسلع والنقد الأجنبى على حد سواء، وانتعاش حركة تهريب السلع المحظورة من دول الجوار، وارتفاع معدلات التضخم، ومن ثم ارتفاع تكلفة الانتاج وتدهور التنافسية العالمية للصادرات.
لكن، فى ظل الظروف الراهنة، يمكن إدراج سياسات التحكم المباشر ضمن قائمة القضايا السيادية التى ترتبط بالأمن القومى. إن تطبيق هذه السياسات يتطلب تضافر الجهود وتنزيل القوانين والضوابط التى تحكمها إلى الواقع، تفاديا لمثل هذه التبعات التى قد تؤدى إلى إجهاض تلك السياسات، وما يتبعها من انهيار اقتصادى وفوضى اجتماعية. ومن بين الاجراءات التى يمكن اتخاذها فى هذا الشأن تكثيف الجهود للتوعية المجتمعية بخطورة الوضع الراهن، والأهداف الرئيسة من تلك السياسات، إضافة إلى شحذ الهمم فى اتجاه تعزيز السلوك الوطنى لاجتياز النفق المظلم.
ومما لا شك فيه أن هنالك العديد من الجهود الأخرى التى ينبغى القيام بها بصورة عاجلة في مجالات متعددة، بعضها يخص الميزان التجارى والبعض الآخر يخص الموازنة العامة، والتى ينبغى أن تكون داعمة ومتزامنة مع جهود التحكم المباشر على الواردات. فى جانب الميزان التجارى، تشمل تلك الجهود على سبيل المثال وضع الضوابط الصارمة لتحصيل عوائد الصادرات التقليدية، وتعظيم عوائد صادرات الذهب، ووضع الأطر والضوابط اللازمة للتحويلات المالية للمغتربين بصورة عادلة لجميع الأطراف. وفى جانب الموازنة العامة، تشمل تلك الجهود إعادة ولاية وزارة المالية علي كل الشركات والمؤسسات الاقتصادية التى كانت خارج إطار ولايتها (دون التأثير على أنشطتها)، والمراجعة الجادة والصارمة للإعفاءات الجمركية والضرائبية للجهات غير المستحقة. وقد ظل الحديث يتردد خلال الأعوام السابقة حول ضرورة الاصلاحات فى تلك المجالات دون التوصل الي قرارات حاسمة بشأنها.
كلمة أخيرة:
إن سياسات التحكم المباشر على الواردات قد تبدو صعبة فى ظل التغير الكبير الذى شهده المجتمع السودانى، الذى اصبح استهلاكيا بدرجة مفرطة (فيها درجة عالية من التظاهر والتفاخر). لكن، من غير المتوقع أن تؤثر القيود على واردات السلع الاستهلاكية على الغالبية العظمى من المجتمع، إذ أن بالامكان تخصيص الموارد التى كانت تخصص لاستيراد تلك السلع الاستهلاكية لمعالجة مشاكل المنشآت التى تنتجها محليا. بصورة عامة، هنالك العديد من الأسئلة التى تطرح نفسها. على سبيل المثال، وفى ظل شح النقد الأجنبى، كيف يعقل تخصيص موارد لاستيراد سلع مثل التفاح والعنب، بينما يعانى السوق من شح فى الأدوية. وكيف يعقل تخصيص موارد من النقد الأجنبى لاستيراد سلع كمالية (مثل السيارات الفارهة وأنواع الأفرشة والأثاثات الفخمة) فى ظل عدم توفر مدخلات الانتاج للزراعة والصناعة. وكيف يعقل استخدام موارد النقد الأجنبى لاستيراد سلع كمالية تستفيد منها فئة اجتماعية قليلة، بينما تتضرر منها فئة اجتماعية كبيرة (من خلال تدهور سعر الصرف). إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تؤكد على أن سياسة التحكم المباشر على الواردات يجب أن تصبح خيارا حتميا لا بديل له لتصحيح الاختلال الكبير فى الميزان التجارى، على الأقل فى المرحلة الراهنة، وذلك بغض النظر عن ما ينجم عنها من ردود أفعال تأتى عادة من الأغنياء، وهم فئة قليلة، بينما يتضرر منها الفقراء، وهم فئة كبيرة. وتظل الحقيقة الغالبة فى ظل الظروف الراهنة أن مآلات البديل لتلك السياسات يصعب التنبؤ بها، وأقلها الانهيار الاقتصادى والفوضى الاجتماعية. حينها، لن تجدى أى سياسات اقتصادية لتدارك الأمر.
وقد يرى البعض أن هذه السياسات تتعارض بشكل صارخ مع مواثيق ومبادئ منظمة التجارة العالمية وأهداف صندوق النقد الدولى والبنك الدولى فيما يختص بالتوسع فى التجارة الدولية. ولتحقيق ذلك الهدف، تركز هذه المنظمات والمؤسسات على تحرير التجارة الخارجية دون الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات التى تواجه العديد من الدول للمنافسة فى الأسواق العالمية، مما يعنى فى واقع الأمر اختزال أهداف تلك السياسات فى تحرير القيود التى كانت تخضع لها واردات تلك الدول، مما يعنى بدوره فتح أسواقها لمنتجات الدول المتقدمة. وهذا هو الخطأ الكبير الذى وقعت فيه الحكومة السودانية، بخاصة فى أعقاب استخراج وتصدير البترول.
فى المقابل، يتابع الجميع الحرب التجارية التى تدور رحاها هذه الأيام بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول، أبرزها الصين، بالرغم من عضوية الدولتين فى منظمة التجارة العالمية، وتوقيعهما على مواثيقها. ودون الخوض فى أسباب وتفاصيل تلك الحرب، إلا أنها تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأولوية تأتى لمصالح الدول. وإذا ما تعرضت تلك المصالح للخطر تجنح الدول المعنية لإجراءات آحادية للمحافظة على مصالحها، بينما تضرب بتلك المواثيق عرض الحائط. وبالرغم من أهمية احترام المواثيق والمعاهدات الدولية، إلا أن الظروف التى يمر بها الاقتصاد السودانى تتطلب إجراءات استثنائية عاجلة لا يمكن تأخيرها التزاما بتلك المواثيق.
لقد عملت نظريات التجارة الحرة والتى أسست على مبدأ الميزة النسبية إلى ترسيخ الوهم الذى ظل سائدا منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وهو تقسيم العالم إلى أقطار صناعية تصدر المنتجات المصنعة وأخرى تصدر المنتجات الزراعية. وقد أشارت هايتر (Hayter, 1981) إلى أن هذه النظريات قد صيغت لتبدو وكأنها تفسير علمى للواقع فى حين أنها ليست إلا أدوات فكرية ) أيديولوجية( فقط. وتعتقد هايتر )1981 (أنه بمجرد ما اكتمل إنشاء الصناعة البريطانية فإن حجة التجارة الحرة لم تعد تنطوى على المخاطر ولا تبعث الشعور بالقلق. ولذلك أصبحت بعض الحكومات والمؤسسات المالية الدولية (مثل صندوق النقد الدولى (تسوق الحجة بأن من المفيد لكل الأقطار فتح أبوابها للواردات. لكن، فى مرحلة لاحقة برزت آراء من يعتقدون فى إقتصاديات الكلاسيكيين الجدد، والذين تخوفوا من عدم قدرة الصناعات الأمريكية على المنافسة فى السوق العالمية، كما نالت حجة فرض قيود على الواردات البريطانية،التى تبنتها مجموعة كامبريدج الإقتصادية (Cambridge Economic Group)قدراً كبيراً من الإحترام لحماية الصناعات البريطانية المتدهورة
فى ذات السياق، سخر ماركس )1848 (من مبدأ الميزة النسبية والذى بموجبه أصبحت الأنشطة المتعلقة بإنتاج المواد الخام والسلع الأساسية فى دول ما يسمى بالعالم الثالث تبدو وكأنها القدر الطبيعى لتلك الدول. كذلك، لاحظ المؤرخ الإقتصادى كارلو سيبولا (Carlo Cepolla) أن من حسن حظ بريطانيا أنه لم ينهض ريكاردو فى الهند (Indian Ricardo) لإقناع الشعب البريطانى (على أساس مبدأ الميزة النسبية) بأن مصلحتهم تقتضى أن يتحولوا إلى رعاة وأن يستوردوا كل المنسوجات التى يحتاجونها من الهند .
فى حالة السودان، فإن الواردات من المواد الغذائية والسلع المصنعة تعنى فى نهاية المطاف إغلاق مزارع ومصانع وأنشطة خدمية مصاحبة لها، مما يعنى تشريد العاملين فيها لترتفع معدلات البطالة ونسب الفقر. فى المقابل، تعمل هذه الواردات على تاسيس وتطوير مؤسسات مماثلة فى دول المصدر، مما يعنى خلق مزيد من فرص العمل ورفع معدلات النمو فى تلك الدول . هذه هى بالضبط الأهداف التى حققتها الدول الاستعمارية عن طريق القوة فى مرحلة من التأريخ، وعن طريق نظريات الميزة النسبية والتجارة الحرة فى مراحل لاحقة. ويصبح الأمر أكثر خطورة عندما تكون الواردات سلعا غذائية تؤدى إلى ارتهان قرارات تتصل بالأمن القومى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.