كانت أنفاسه الأخيرة على موعدٍ مع القاهرة، المدينة التي أحبّها وسلخ أعواماً طوالاً بين ربوعها، ونشأت بينه وبينها وشائج في الغيب قبل أن يراها في عالم الشهادة ويكون بعضاً منها وتكون بعضا منه، فقد درس مراحله الابتدائية بمدارس الكمبوني والإنجيلية، في مدينة أخرى أحبّها وظل يستذكر حبها ويعود إليها كلما شطّ به الفراق. بورتسودان على ثغر البحر الأحمر، غير بعيدٍ عن شواطئ أخرى أحبها أيضاً في جبهة سيناء وفي بورسعيد وخفّ وطئه عليها مقاتلاً ضمن كتائب المدافعين عن حدود المواجهة في حرب أكتوبر 1973، كانت أنفاسه أيضاً على موعد فجر الثالث عشر من أكتوبر ولكل أجلٍ كتاب. ورغم شباب مفعم بالجندية والعسكرية في مورد من مشربين، فقد جسّد عبد السلام أنموذجاً فريداً في التجرُّد من العصبية، فهو من تلك الدفعة التي درست الكلية الحربية بالكامل في مصر وتخرجت تحمل في جنباتها زمالة واحدة من مصريين وسودانيين وإن بدت مزدوجة، دفعة 1971 التي تبدو فذّةً على غير مثال سابق أو لاحق، وظل إلى حين استقراره الأخير في مصر لا يفرِّق بين أحدٍ منهم مصريين وسودانيين، فيهم أسماء كبيرة بلغت ذروة المناصب، فكلهم زملاء الدفعة وهي زمالة مُقدّسة لدى العسكريين. وكما ظل عبد السلام سودانياً ومصرياً في ذات الوقت، فقد ظل عسكرياً ومدنياً بذات المستوى وتلك لعمري موازنةٌ أشق وأضنى، بل هي خصلة أندر ما تكون عندما تعلم أن والده المرحوم صالح فرح كان أيضاً عسكرياً ومعلماً بالكلية، تدرّب على يديه ثلة من الأولين وثلة من الآخرين. يحكي عبد السلام عن أول لقاء جمعه مع الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري بعد حادثة انقلاب 1971 المضرج بالدماء، وقد حملت الفجاءة كل تلك الدفعة، وطوت جناح السفر على غير توقع من القاهرة إلى الخرطوم لتدرك الانقلاب قبل أن يستقر، ولكن الأحداث كانت أسرع لدحض الانقلاب قبل وُصُولهم، فدخلوا فوراً في عقابيله. وإذ اختير عبد السلام في قوائم قسم الاستخبار وأبلى بلاءً ملفتاً في تحرياته، انتبه النميري إلى تقرير كتبه ضابط حديث التخرج وطلب من قائد الاستخبارات دعوة الضابط الصغير لمُقابلته، عند المقابلة سأله النميري عن علاقته بمدربه صالح فرح، وعندما أكّد عبد السلام أنّه والده، قرّر النميري على الفور ضمه لكتيبة الحرس الجمهوري، وهي الكتيبة التي ظل بها حتى بلغ منصب نائب قائدها، وهي السانحة التي أتاحت له ألا يرتدي الزي العسكري قط، بل ليشتهر بين الجميع بالطقم السفاري الأبيض أو البدلة الأفريقية لباس الأفارقة الكبار. وكما ظلت علاقته وثيقة بطائفة جليلة من قادته العسكريين أمثال بشير محمد علي وحماد توفيق وحمادة عبد العظيم وعمر محمد الطيب والسر أب أحمد وغيرهم كثيرٌ، بل إنه ليذكر في فخرٍ وإعزازٍ تدخُّل الفريق عبد الماجد حامد خليل لدى النميري أكثر من مرة ليوقع على انتداب عبد السلام إلى دولة الإمارات أُسوةً بزملائه، ويؤكد على ذلك بأنّ عبد السلام يُكرِّس كل وقته في عمله برئاسة الجمهورية ولا يملك حتى منزلاً يؤمن له سكناه في المستقبل سوى دار الأسرة العامرة بالحلفايا، كان النميري يترجى قائد الأركان ليرجئ الأمر، لأن عبد السلام عند النميري كما هو عند الكثيرين مصدر سلوى عظيمة وليس مجرد ضابط في حرسه، وكان يقول بصريح العبارة إن عبد السلام هو مصدر ضحكته الوحيد في وحشة السُّلطة وضغوطها، إلى أن نجح عبد الماجد في حصوله على موافقة مشروطة، ينتدب فيها عبد السلام لعام واحد ويعود لموقعه في الحرس الجمهوري، وهو العام الذي أسّس له وشائج طيبة مُمتدة مع مشايخ إمارة الشارقة. وكما ظلّت علاقته طيبة مع قادته العسكريين، فإن القائمة تطول لو تصدّيت لإحصاء علاقات عبد السلام مع السودانيين الكبار الذين عرفهم وعمل معهم وحملوا له ودّاً كبيراً وبادلهم حُباً بحُبٍ، فهو يذكر بإعزازٍ كبيرٍ علاقته بجمال محمد أحمد، خاصةً وأنّ نجله الأكبر عاصم جمال كان زميلاً لعبد السلام في الكلية الحربية، وبما أنني مُولعٌ بجمال محمد، فقد أضاءت لي روايات عبد السلام عنه جوانب لم يكن ليتيسّر لي أن أراها لولا ذلك، كما امتدّت علاقات عبد السلام مع تلامذة جمال الكبار، خاصةً الطيب صالح ومنصور خالد، فقد كان الطيب صالح حفيّاً بعبد السلام يزوره مسافةً توجب القصر من منزله في ويمبلدون إلى بملكوا حيث يسكن عبد السلام، بل إن الطيب صالح هو من قطع تردُّد عبد السلام في السكن في منطقة بملكوا عندما مدح المكان في عبارات طريفة: كيف يا عبد السلام ترفض، أنت سكّنوك في حي الأشراف. كما كان الطيب صالح شديد الإلحاح على، عبد السلام لتدوين مذكراته بوصفها قصة عظيمة تحوي جوانب مُهمّة من تاريخ السودان إبان ثلاثة عشر عاماً قضاها إلى جانب النميري، وكان يحفزنا على حث عبد السلام ليفعل، وكنت أقول للطيب صالح رداً على طلبه الملح (عبد السلام لما دعته نفسه للمجد زجرها)، أقصد العبارة الرائعة التي أجراها الطيب صالح، على لسان أحد أبطاله في بندر شاه. أما علاقة عبد السلام صالح مع منصور خالد، فهي تدخل في علاقة خواص الخواص، فقد عاش منصور خالد مُحباً للوحدة حفيّاً بخصوصيته، لكنه كلّما أودعه الأطباء في لندن لسرير المستشفى، يطلب إخطار واحد فقط من الناس ليكون في صحبته هو عبد السلام صالح. لن نبرح رفاق مايو قبل أن نذكر علاقته المُتميِّزة مع إبراهيم منعم منصور وزير المالية الذي يعتز بصداقته ويرعاها بكل ما يملك من مَحَبّةً وانتباهٍ، وهي محبةٌ واعتزازٌ مُتبادلٌ. في معادلة التوازن العبقري توفر عبد السلام، على عقل حافظ ذكي وروحٍ علمية كأنه أحد أتباع الوضعية، ولكنه أحاطها بروح صوفي فيّاض، لا يتقدم عبد السلام مطلقاً ليؤم الصلاة ولكنه يحملك إلى ربيع روحي عندما يصلي خلفك أو إلى جانبك وهو يلهج بالذكر في صوت عميق مُفعّم بالخشية، ثم يصلي على النبي مثاني يقشعر لها البدن، فالصلاة على النبي هو إدمانه كما يقول عن نفسه. أذكر أن الدكتور منصور خالد جاء ذات مرةٍ إلى لندن وضايقه جداً غياب عبد السلام في رحلةٍ إلى إيطاليا، وعندما عاد عبد السلام سأله منصور: ماذا كنت تفعل في روما؟ أجاب عبد السلام: كُنت مدعواً من قبل آباء فيرونا. سأل منصور مُستعجباً: آباء فيرونا؟ هل أنت سمّاني أم كاثيولكي؟ لقد تلقى عبد السلام فعلاً، دعوة من الجمعية الكاثوليكية المرموقة بوصفه خريجاً مميزاً من مدارس الأب كامبوني، وهو بذات التوازن المبدع كان يستلهم فيوض الإيمان من مشايخه المتصوفة العديدين، وهو كذلك طوّافٌ، كثير الزيارة لمقامات الأولياء في كل مكان خاصّةً مصر، وله شبكة مضيئة مع أهل الله في كل مكان، بعضهم لقيه وعرفه وبعضهم لقيه ولم يعرفه وبعضهم لم يلقه قط، ولكنه في وصالٍ دائمٍ معهم بحبل المَحَبّة المتين وبعطاء غير ممنون، ولكنه بذات المَحَبّة كان يلقى أهل الملة المسيحية ويطرب لصلواتهم ودعواتهم وسيرهم في الانقطاع والتبتل . من مناقب عبد السلام التي لا تخطئها العين، عكوفه الدائم على القراءة، ومحبته الشديدة وتقديره لأهل المعرفة، يذكر قصصاً طيبة عن عرى صداقاته الأول مع علي المك وصلاح أحمد إبراهيم، ويحتفظ بخطاباته التي تبادلها معه الأخير، بل ويحفظ مقاطع منها عن ظهر قلب، ويذكر تواصله الدائم معه إبان السنوات العصيبة التي أعقبت استقالته من وزارة الخارجية وسعيه لحل الأزمة مع منصور خالد، كما يحلو ويطرب كلما استعاد ذكريات ثقافة صلاح وفكاهته، يقول عبد السلام كتب لي صلاح من فرنسا: أعيش في غُرفةٍ تَجمّد العروق من البرد بالحي اللاتيني والحلوة في أم درمان تغني "يا ماشي لي باريس جيب لي معاك عريس". تزوّج عبد السلام من صنو روحه سونا عبد الله باعشر، وكانت وشيجة أخرى خلدت علاقته ببورتسودان وعائلاتها الحضرمية الكبيرة التي صنعت مجد تلك المدينة، في مُصاهرةٍ أحبّها عبد السلام وأخلص لها، وظل لسانه يلهج بالثناء على أهله أولئك الذي انتسب إليهم لا سيما صهره عبد الله، وأنجب من الأبناء الزين الذي قلّده اسمه شيخه الأحب إلى نفسه، ثم ابنه الثاني محمد الذي رمز به إلى محبته للنبي صلى الله عليه وسلم واعتصامه الدائم بذكره ثم آخر العنقود صالح، على اسم والده، وسوى ذلك فقد ارتبط عبد السلام بأسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة في بر وتواصل لا مثيل له، كما جَدّدَ علاقته بأحفاده وظلّ كلما ذكرهم وهو بعيدٌ عنهم تعتريه بهجة خاصّة وكلما غشيتهم علة ولو طفيفة سال دمعه مدراراً، لا يشبه في ذلك إلا علاقته بوالدته رحمها الله التي كلّما هاتفها بكي وكلما ودّعها سمع نحيبه. رحم الله عبد السلام صالح فرح رحمةً واسعةً، وألهم أسرته وأصدقاءه الصبر الجميل، فعبد السلام من الرفاق الذين ييسِّرون عليك رحلة الحياة وهي رحلةٌ صعبةٌ كما يقول الطيب صالح، وقد ضم ثرى القاهرة جثمانه قبل قليل بين السابقين الذين أحبّهم، فقد كان يقول: القاهرة مبروكة مبرورة بسبعين صحابياً شهيداً دفنوا في أرضها بعد معركة المقطم