العاشقون الموحدون في جامعة القاهرة بالخرطوم أوائل الثمانينيات من القرن الماضي حتى منتصفه حيث كنا في نهايات العقد الأول من العمر… والتجارب في بداياتها ثرة وندية، والمواهب تفتح اشرعتها للجراءة والتمرد، والجامعات آنذاك تضج بالحيوية والفعل المثابر في السياسة والاجتماع . و من العاشقين الأجمل على الاطلاق قصة الشاعر الصديق "محي الدين الفاتح" وحبيبته وزوجته من بعد "نادية الحاج"، التي وثقت بسفر عظيم "اتطلع لامرأة نخلة". أجمل ما في جامعة القاهرة "الفرع" أن الحب متاح سرا وعلانية في مجتمع محافظ أغلب طلابه من البنين والبنات من الأقاليم البعيدة والقريبة . التقينا بياسر عرمان في أقصى اليسار، ونحن في أقصى اليمين، إلا أن الحب المتدفق على جنبات الجامعة جعل الصراع بين الفرقاء أقل توترا وأقرب رحُما -إن جاز التعبير-، حيث لم تشهد الجامعة حوادث ومعارك دامية إلا بعد أن تخرج جيل كامل مكث في الجامعة من 1981-1985 . لا أذكر متى بدأت صداقتنا بياسر عرمان أنا والراحل "معتصم الفادني" رضوان الله عليه، برغم أن "ياسر" في ذلك الوقت كان نائيا ومتوحشا وثوريا أكثر من اللازم، ومعاركه ليست مع الاتجاه الاسلامي فحسب، بل تتعداها للحزب الشيوعي نفسه، الذي قسمه الي قسمين، الجبهة الديموقراطية "أ" و"ب" حيث أُصدرت صحيفتان لذات الحزب في كافتريا النشاط. يبدو أن نوازع الثورية والانفصالية لياسر عرمان قد بدأت مبكرا. لا أدعي معرفة عميقة به، لأن العداء في ذلك الوقت سافر للغاية…. و الذي أُتيح لنا في ذلك الزمان كاف ليجعل الوصل ممدودا برغم الانقطاع الطويل بيننا، فجعله متمردا شقيا ثم مرشحا لرئاسة الجمهورية الى داع لعدم إقصاء الاسلاميين بعد حملة شرسة وثقيلة ومدمرة عليهم، لا يستطيع فعل ذلك الا الكارهون بسبق طويل للاسلاميين او له سجل طويل في التمرد على سلطة الانقاذ. في اعتقادي أن الأخطاء السياسية بدأت منذ الاستقلال وزدنا فيها "كيل بعير" فمثلا اركان النقاش تعلم التبرير للموقف والدفاع عنه بوسائل مشروعة أو غير مشروعة حيث الوسيلة تقوم على التكتيك في الدفاع والهجوم على الآخر حتى الانتصار عليه بالضربة الفنية القاضية. الشيوعيون المعروفون آنذاك لا يقربون دار الاتحاد كثيرا عكس بقية أهل اليسار من ناصريين وبعثيين، حيث غالب الشيوعيين يجلسون ويتسامرون ويتآمرون في سلم كلية الحقوق الحديدي الشهير، ياسر لا يفارقه إلا ليجلس بالقرب من المدرج المقابل للكافتريا الجديدة التي انجزها اتحاد الاتجاه الإسلامي الذي كنا فيه. كان يُجالس زميلة له كنت أراها قبيحة ولا أعرف بأي مقياس، حيث كنت أعتقد أن ملازمة زميلة على طول الخط يعني" علاقة حب ومن ثم زواج"، وهذه ساذجة تاريخية أدركناها في قادمات الايام، ولذا استغربت منه حيث كان نجما سياسيا في أركان الجامعة وله ميزة تفضيلية أن يختار من جميلات الجامعة كيف يشاء وهذه ايضا سذاجة وطفولة متأخرة مني، فأدركت في العقد الثاني من عمري أن جمال المرأة له ابعاد اخرى لا تدركها الأبصار . مضى ياسر عرمان مع الحركة الشعبية لتحرير السودان حتى انفصال الجنوب مؤمنا برؤية الراحل جون قرن الذي أودت بحياته حادثة الطائرة بالجنوب، لم ينفصل الجنوب بالمشاكسات السياسية بين المؤتمر الوطني والحركة ولا عناد د.نافع وشراسة باغان أموم، ولا عدم إدارة التنوع الثقافي الاثني، ربما يكون من كل هذه المسائل شيء ما لكن في تقديري أن النخبة السودانية سواء أكانت شمالية أم جنوبية هي السبب الرئيس في انفصال الجنوب، مما يعني يا "ياسر" سقوط مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان، بدليل لمّا اختفى العدو الشمالي بفعل الاستقلال، انتقلت كل الامراض السياسية والأوبئة المزمنة من حرب أهلية وفساد وتمييز للدولة الوليدة. من هذا المدخل يسقط مشروع الحركة الشعبية في تحرير السودان مثلما سقط مشروع الانقاذ بعد أعوام امتدت لثلاثة عقود كانت لها إنجازات داوية، وهزائم موجعة . فرقنا الزمان يا صديقي وتزوجت سودانية جنوبية انتصارا لفكرة ما، بينما تزوجتَ بنت الجيران انتصارا للأغاني الرومانسية التي كبرنا عليها للراحل "عبد العزيز مبارك" " يا أحلى جارة". سقوط المشروعين نسبي ويحتاج لدراسة عميقة يساهم فيها بشكل فردي من عندنا بروف "التجاني عبد القادر " وربما يساهم د.الشفيع خضر مقاتلا ومغضوبا عليه لوحده ويتجاوز ذلك للكثير من ابناء الوطن الرائعين. من التجربة الطويلة التي خضتها حربا وسلما وتواصلا ومعرفة بالفرنجة من المؤكد أن هذه المشكلات لا يحلها اهل اليسار او اليمين انما تقتضي رؤية شاملة من كل السودانيين ولا يمكن أن نقصي فيها فريقا دون فريق وبها ركائز اساسية لا تستقيم الحياة دونها….مثلا فيما ندر في الحياة السودانية أن سكيرا عربيدا مات دون توبة نصوحة، وإذا قُدر له أن يفنى فتجد له أفعالا خيّرة لا يدركها كل الناس تكون له مع الله مخرجا. ياسر انت في موقع يؤهل لمقاومة الإقصاء وادراك الأخطاء السياسية التاريخية سواء اليسار أم لليمين اتيان بمشروع وطني يقوم على الحرية والسلام والعدالة هذا عبء ثقيل على جيلنا الذي نزعته "الأيدولوجيا" وقد قال محمود درويش "الايدولوجيا مهنة البوليس".