يحتاج السودانيون للجرعة الديموقراطية في الحكم لأنهم تحديداً بحاجة إلى الحريات التي ترتبط بها، فهي وسيلة أكثر منها غاية لشكل النظام السياسي، ومن خلال ثلاث ديموقراطيات عبر السودانيون جميع الحواجز السياسية في مسيرتهم الوطنية، وعبّروا بوضوح عن منطلقاتهم ونزعتهم الديموقراطية التي تجعلهم معنيين بأيّ قدر من الحريات. خلال فترة النظام السابق كانت هناك إسقاطات شمولية كثيفة في الممارسة السياسية، وكان هناك استيعاب جيد للمزاج السوداني فحدث نوع من الاستلاب لخيارات الناس وتكسيح قدراتهم، وذلك من خلال تقديم مزيج من الديموقراطية عبر المؤتمرات القاعدية والفئوية والقطاعية مع قبضة أمنية وتضييق على الأحزاب والحريات. ذلك الأسلوب هو الذي منح النظام السابق القدرة على البقاء طويلا رغم أنه في جوهره نظام شمولي بعيد عن الديموقراطية ومتطلباتها واستحقاقاتها، ومع ذلك جرفته الموجة الجماهيرية التي شحنتها القبضة الاقتصادية، وهي التي أفقدت النظام توازنه فكان سقوطه كما في خروج أكتوبر 1964م وإبريل 1985م. من سوء الظن في الممارسة السياسية الاعتقاد بأن الديموقراطية هي الحل الحاسم لأزمات وتحديات المشكلة الوطنية، فديموقراطية عريقة مثل وستمنستر لم تمنح بريطانيا القدرة على الاستمرار كقوة عظمى أو لديها الإمكانية لأن تستمر في أداء دورها التاريخي، وذلك ما عبّر عنه دين آتشيسون وزير خارجية الرئيس الأمريكي هاري ترومان، بقوله "بريطانيا ضيّعت امبراطورية ولم تستطع العثور بعد على دور". تلك الديموقراطية العريقة إذا فشلت في بقاء الدولة، وجعلت برلمانها عبارة عن هرجلة وضجيج، فهي ليست الضامن الحقيقي لاستقرار منظومة الحكم ومنح المواطنين تجربة أفضل في الحياة، لأن هناك فرقاً حقيقياً وكبيراً بين أن تكون غاية أو وسيلة، ومن الخطأ النظر إليها كغاية لأن ذلك يجعل الحريات أشبه بالفوضى. الفكرة الديموقراطية تطورت عبر التاريخ، ولم تخذل الديموقراطية شعباً أو دولة إلا حين أفقدت الممارسين السياسيين والمواطنين توازنهم وإتزانهم وجعلت الجميع يدخل في دوامة من الصراع الذي يتحول إلى ملهاة، ومحاولات مستميتة من أجل الصراع على السلطة، وفي تجاربنا الوطنية حدث ذلك مع عبد الله خليل وهو رئيس للوزراء حتى اختطف العسكر السلطة، ثم الصادق المهدي وحدث ذات الأمر، ثم تكرر مع المهدي مجدداً. تحقيق التوازن في الفكرة الديموقراطية هو الذي يجعل الدولة تعبر إلى بر الأمان، ويخرجها ومعها الشعب من دائرة الأوهام السياسية والصراعات التي تتكسب من ورائها كل القوى التي تنتهي غاياتها إلى السلطة حتى لو لم تكن تمتلك برامج حقيقية وفعلية للصالح الوطني. ذلك التوازن إنما يتم في إطار السلطتين السياسية والاقتصادية، وليس كما قد يرى البعض بأنه توازن بين المدنيين والعسكر، لأن العسكر في الأساس لا موقع لهم من الإعراب السياسي، وعليه فإن الديموقراطية التي تتناسب مع أشواق الجماهير الوطنية ليست ديموقراطية اجتماعية وإنما ديموقراطية ليبرالية "سياسية". ما تفعله النخب الحاكمة أو المتسلطة أو المسيطرة هو إيهام الجماهير بالديموقراطية الاجتماعية وهي نوع من الديموقراطية جاء في الأصل بسبب اختلال التوازن بين السلطتين السياسية والاقتصادية وترتب عليها الفقر والتبعية الاقتصادية ونمو الاقطاع لصالح من يملك وسائل الإنتاج كما نرى في الرأسمالية الطفيلية التي تأتي بمعدمين في صدارة النخب الاقتصادية. حين تعي الجماهير الوطنية أنها تورطت في ديموقراطية اجتماعية وليست سياسية يحدث نوع من المواجهة بين الفرد والدولة، وهذا أقرب إلى حالة التروس وحرق الإطارات التي يقوم بها أولئك الشباب للتعبير عن رفضهم لسلوك أو تصرفات تتعارض مع طموحاتهم الوطنية. في الديموقراطية الليبرالية تنتعش الحريات ولكن في ظل دولة القانون، وقد يحدث أو يستمر الصراع بين القوى التي تبحث عن السلطة، ولكن إذا توافق وتواثق الشعب على عقد دستوري يستوي تحته الجميع فذلك جدير بأن يكبح نمو النزعة الفوضوية سواء للفرد أو القوة السياسية التي قد لا تجد نصيرا شعبيا. الديموقراطية الليبرالية تمنح كل فرد أو قوى سياسية أو دينية الحرية الضرورية للتعبير عن نفسه أو برامجه أو رؤيته، فهي حين تؤسس لدولة القانون فذلك يقود تلقائيا إلى تساوٍ في الحرية والمساواة، وحين يحصل الوطن / الدولة على هذه المتساوية السياسية ينبغي أن يحدث الاستقرار لأن في ذلك تحييد لأي أفكار لا تستقيم مع المزاج الوطني العام. حين يطغى في المشهد السياسي خلل في الفكرة الديموقراطية فإن البديل هو نظام شمولي واستبدادي يأتي به العسكر حتى وإن تم خلع البزة العسكرية، وهناك أزمة حقيقية في متساوية الحرية والمساواة لدى هذه الفئة لأنه يستحيل معها تعميم الحريات كما نادى بذلك جان جاك روسو، وهو محق لأن الرهان الديموقراطي وفرص النمو الوطني كلها ترتكز إلى مغادرة محطة الديموقراطية الاجتماعية وتخدير الجماهير الوطنية وتزييف إرادتها وذلك أول ما يحدث عند الممارسة الشمولية. لا تلتقي النزعة الاستبدادية مع أي فكرة للنمو والتطور، ودون حريات حقيقية ودولة قانون فعالة لا يمكن لأي أمة أن تنهض. كثير من الديكتاتوريات سقطت لأنها ببساطة فشلت في تطوير أسلوبها السياسي الذي يحترم الإرادة الجماهيرية وتحقيق متساوية الحريات والمساواة وبناء دولة القانون. في الحالة السودانية الماثلة لا يمكن البقاء طويلا في فترة انتقالية يتردد فيها المدنيون وشركاؤهم العسكر في اتخاذ الخطوة التالية، لأن الطرفين لا يعرفان إلى أين يتجهان أو ما الذي ينتظرهما. الشق العسكري يبدو أكثر استقرارا وثباتا لأنه يمتلك السلطة الفعلية وينتفع من ضعف الشق المدني الذي لا يملك الأدوات السياسية الضرورية لشؤون الحكم، وفيما يفترض أن يكون أكثر حرصا على الانتقال الديموقراطي إلا أنه لا يفعل لأنه غير مستقر ويتغطى بمظلة العسكر ليبقى الوضع على ما هو عليه. في الحالتين المنتفعتين يحدث إيهام وتضليل كبير للجماهير، فوطنها لا يتقدم خطوة بل يتأخر ويزداد الوضع سوءا لأن هناك انتكاسا يحدث في ديموقراطية الناس بسبب خيبة طرفي الحكم وضعفهما، وكلا الطرفين يستند إلى الآخر بانتظار حلول تأتي من السماء، ولا يستطيع طرف أن يقدم على خطوة دون الآخر لأنه سيتعرّى ويتكشف. العسكر سيجدون أنفسهم في مواجهة الفرد المواطن قبل أن يشرعوا في بناء منظومة شمولية تستدعي كل استعداء دولي ممكن. المدنيون لا يملكون برامج أو خطط أو قدرة على إدارة الدولة دون الغطاء العسكري وهم أعجز من الوضوح بأنهم أقصر من قامة الثوار الذين جاؤوا بهم، وبين هؤلاء وأولئك من يضعون رجلا في المركز وأخرى في الغابة. مع هذا الوضع يبدأ الحل بنزاهة وشفافية عسكرية لا تمارس أو تتطلع إلى تسلط أو تسلق على الدولة فكل التجارب العسكرية انتهت بخروج جماهيري، يقابل ذلك اعتراف وانزياح مدني قبل تقصير الفترة الانتقالية والعمل بصدق وصولا إلى ديموقراطية ليبرالية هي من حق كل مواطن وليست هبة أو منّة من الذين يسيطرون على الحكم بحالة انتفاع متبادل لا مثيل لها.