الكلام عن الغيرة بوصفها مِلح الحياة الزوجية (إذا كان الحبيبان متزوجين) أو ملح علاقة الحب التي تربط الحبيبين (إذا لم يكونا قد دخلا بعد القفص الذهبي، ونتجاوز عن لونه الآن) مما يجري على ألسنة خبراء حل الخلافات الزوجية وغيرهم من المتعقلين المتعلقين بحل أزمات القلوب العاطفية إجمالاً، لكنه من جملة ما تجري به الألسنة مما جادت به قريحة أحدهم مرة وكان من حسن حظه أن تلقفته الألسنة من بعده - لطرافة التشبيه – دون أن يخضع لتمحيص العقول جيداً، فالحديث عن سكّر الحياة الزوجية أو أية حياة لأي حبيبين أولى، خاصة إذا كان المقصود هو الأثر اللذيذ الذي يبثه ذلك الشعور المثير في العلاقة العاطفية، ولكن ربما استقام تشبيه الغيرة بالملح إذا كان المقصود هو الأثر اللاذع ليس إلّا. قصة الملح هذه غالباً ما تشمل حديث أولئك المنظرين عند التطرق إلى تلطيف المشاكل الزوجية وتسويغها، وإذا اضطررنا إلى الموافقة على مسألة الملح هذه من باب إلحاح الوصف المتكرر، فإن ما يجب الالتفات إليه هو أن أحداً من المتزوجين (أو العشاق الذين لا يزالون يحلِّقون في سماوات الغرام والأحلام) لا ُيقدِم على الشكوى من الملح إلا بعد أن يكون مقداره في طبق العلاقة قد جاوز الحدّ ولم يعد في وسع لسانه وقلبه تحمل لسعاته، تماماً كما لا يقدم أحدهم على زيارة طبيب الأمراض النفسية إلا وهو مستحق للقب مريض نفسي وقد فشلت كل الألقاب دون ذلك في استيعاب أزمته. الغيرة على الأرجح بداية ظاهرة غير صحية ( إذا لم تكن الظاهرة غير الصحية بعينها)، فشك أحد الحبيبين في أن اهتمام الآخر ينصرف إلى طرف ثالث إمّا أن يكون في محله ويكون المشكوك فيه مذنباً، وإمّا أن يكون في غير محلّه ويكون الشاكّ مذنباً، وفي الحالين تكون العلاقة بين الزوجين في موضع اتهام بفتور ( من أحد الطرفين أو من كليهما) بالمقدار الذي سوّغ الشك وإن يكن قليلاً كذرّة ملح في قِدْر عظيم مما تُطبخ فيه ولائم الأعراس. والحال كتلك، لا يغدو فضل الغيرة سوى كونها العرَض الذي نبّه مبكّراً إلى أن هناك مرضاً يجب الإسراع إلى مداواته. أما أن يكون المقصود من تشبيه الغيرة بالملح أن الأخير بمثابة العلاج المنبِّه الذي يُحقَن في شريان علاقة عاطفية توشك أن تذوي.. فلا.. و ثلاثة لاءات من باب التأكيد، ولسنا في سبيل التبرير لهذه اللاءات بحاجة سوى إلى الرجوع بضعة سطور لتأكيد أن مقداراً ضئيلاً من العلاج المزعوم كفيل في كثير من الأحيان بإثارة كل نيران الفتن العاطفية الكفيلة بدورها بتدمير كل علاقة يُظن أنها وطيدة. جنون الغيرة لاحدود له، وهو يفوق أضعافاً مضاعفة جنون الحب ذاته. قد يغار العاشق على معشوقته من رفيقاتها دون أن تحمل العلاقتين أياً من أوجه الشبه، وقد يغار عليها من حيوان ( ليس على سبيل المبالغة) إذا أولته المعشوقة اهتماماً زائداً (أي أزيد من اهتمامها بالعاشق المسكين)، وقد يغار عليها من جماد ( أيضاً ليس على سبيل المبالغة، والهواء الذي تتنفسه المعشوقة هو أشهر الجمادات المثيرة لغيرة العاشقين )، والأغرب في هذا الباب هو الغيرة على المعشوقة من ميّت كان يحبها أو كانت (و ربما لا تزال) تحبه. إذا كان ماسبق حول غيرة الرجل على المرأة فإن ما يمكن أن يقال عن غيرة الأخيرة على الأول أدهى، فالمجتمع (أيّ مجتمع) لا يمّرر للمرأة إقامة علاقات متعددة في وقت واحد ولا يتردد في وصفها بأقذع النعوت إذا هي تجاسرت على مجرد التفكير في ذلك، لكنه (أيّ مجتمع مجدداً) يمرّر للرجل ذات الصنيع خاصة إذا كان عابراً، وعليه فإن بنات حواء في حالة ترقب دائم لما عسى أن يكون موضع تمرير من قِبل المجتمع لهفوات الرجل، بل هن – أبعد من ذلك – على الدوام في حالة الاستعدادات القصوى لالتقاط ما عساه أن يكون بادرة لمواضع تمرير لاحقة وقتل تلك البوادر في مهدها. ولا حاجة إلى التنبيه إلى فطنة بنات حواء في القدرة على توهّم بوادر من عندهن في حال تحلّي الرجال بأدب زائد يستعصي على التفسير. وإذا كانت دواعي المرأة للاستثارة أكثر وأعمق كما رأينا، فإن قدَر بنات حواء عندنا أن يعانين أضعافاً مضاعفة من الغيرة، خاصة إذا كان الرجل من الصراحة والمواجهة (ومن قبلُ الأدب) بحيث يدخل على إحداهن بضرّة في يده، ويزداد الحال سوءاً إذا كان ذلك الرجل من الفتوة بحيث يدخل على إحداهن تلك وضرّتها بثالثة، ثم يدخل على الثلاثة بعد زمن ليس بعيداً بالرابعة. أما أخطر الرجال فهو من تضحى عنده مسألة الدخول بالضرّات عادة تبعث لذة خاصة، فيتخلص من إحدى الأربعة ( إذا كن من الشباب والصحة بحيث لم يتخلص الموت من إحداهن فتذهب حتف أنفها) ويدخل بالخامسة.. ثم السادسة والسابعة وهلم جرّاً على ذات المنوال إلى أن تأذن فتوّته بالقرار. البعض يرى أن لون الغيرة هو الأصفر، ولسنا نعلم على وجه الدقة المقصود بذلك، فلا تبدُّل ألوان ثياب الغيور ولا تغيُّر ألوان ملابس مثيريه كفيل بإقناعه بالعدول عن طبعه ذاك (أو ظنونه تلك.. في حال أن يكون الأمر عابراً). ورغم أن أثر فعلها بقلوب الوالهين كحامض الكبريتيك كما يؤكد العنوان، فإن الأكثر دراية وتمهّلاً في الوصف من العارفين يرجح أن أثر الغيرة أقرب إلى أن يكون قلويّاً حوالي فمّ المعدة، وهو يختلف عن آلام القلاحة ( والكلام لا يزال للعارفين المتمهلين في الوصف) في أن الغيرة تصاحبها هزة في القلب ورعشة في سائر البدن. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته