د. عبدالعظيم ميرغني العالم من منظور خاص الكل ينظر للحياة من منظوره الخاص، ويعبر عنها من واقع رؤيته وخلفيته الثقافية والاجتماعية، ولعل في قصة علي بن الجهم الذي حينما قدم المدينة من البادية أول مرة وصف الخليفة المتوكل مادحاً بالكلب والتيس والدلو ثم أنه حينما استقر بالمدينة زماناً وسكن بستاناً يجاور جسراً على شاطئ دجلة تبدلت ألفاظه فأنشد عيون المها بين الرصافة والجسر، لعل في هذه القصة مثال حي! لا غضاضة إذن في أن يرى كل واحد منا الحياة من منظوره الخاص، كأن يراها غابة مثلاً، بهجة الدنيا ونعيمها –من وجهة نظر أبو الغابات الدكتور كامل شوقي مثلاً- أو كما أراها عالماً شديد التعقيد ليس فقط بسبب العدد الهائل من الأفراد والجماعات والأنواع التي تقطنها، بل أيضاً بسبب التنوع الهائل في طرق ائتلاف وتعايش أولئك الأفراد وتلكم الجماعات والأنواع، وتفاعلها فيما ببينها ومع بعضها وبيئتها الغابية. فالغابة تصلح لأن تكون حالة إيضاحية نموذجية لبيان أشكال تشابك علاقات الإنتاج الدولية مثلاً، وكشف معالم "نظام الفوضى الخلاقة" الدولي. كل كائن يحتاج للطاقة ليعيش، وفي الغابة -كما في المجتمع الإنساني- تعتمد الحياة على الطاقة، فنباتات الغابة الخضراء هي وحدها التي يمكنها إنتاج الغذاء ذاتياً باستغلال الطاقة الشمسية. وكل ما عداها من أحياء يعتمد عليها في الحصول على الطاقة كغذاء. فأشجار الغابة هي عناصر الإنتاج الأساسية، والحيوانات آكلات هذه الأشجار (كالفئران) هي عناصر الاستهلاك الابتدائية، أما الحيوانات التي تأكل آكلات الأشجار (كالأفاعي) فتسمى عناصر الاستهلاك الثانوية أو العناصر المفترسة. وعناصر الاستهلاك الثانوية نفسها قد تقع فريسة لحيوانات مفترسة أخرى (كالصقور) تسمى عناصر الاستهلاك الثالثية، وهكذا تتوالى حلقات سلسلة الغذاء التي تتحول فيها الطاقة في شكل غذاء من حلقة لأخرى. فإذا ما قسنا حال المجتمع الدولي على حال المجتمع الغابي، يمكن أن نحدد بوضوح أي دولة دولة (صقر) أو دولة (الأفعى)، أو دولة (فأر)، أو دولة (شجرة)؛ ولأمكننا إدراك أسباب استهداف الدولة (الشجرة)، غنية الموارد الزراعية والثروات البترولية والمعدنية في عالم يعاني أزمات حادة في الطاقة والغذاء. ومن المعلوم أن السلسلة الغذائية تفقد كميات كبيرة من الطاقة (حوالي 80-90%) في كل مرة تنتقل فيها الطاقة في شكل غذاء من حلقة لأخرى، ولأجل هذا نجد أن النظام الحيوي في الغابة يحوي أعداداً من الأشجار أكثر بكثير من الفئران، وأعداداً من الفئران أكثر بكثير من الأفاعي، وأعداداً من الأفاعي أكثر بكثير من الصقور. ولعل في ذلك تفسيراً لاحتكار فئة قليلة من الدول للتكنولوجيا المتقدمة ومصادر الطاقة النووية وحرمان غالبية الدول حق تملك هذه التكنولوجيا والطاقة! فى الغابات الاستوائية الكثيفة التي يكون فيها التنافس بين الأشجار على أشده من أجل البقاء، يبدأ نوع من الأشجار يعرف بالأشجار المُفْتَرِسَة حياته بنمو بذوره على جذوع أشجار أخرى (تسمى الأشجار المُفْتَرَسَة)، ثم تلتف فروع البادرات النابتة للأشجار المُفْتَرِسَة حول جذوع الأشجار المُفْتَرَسَة، بينما تهبط فروع أخرى متدلية في الهواء لتمتد حتى جذور الأشجار المُفْتَرَسَة ومن ثم إلى باطن الأرض، فتتمكن بذلك من الحصول على الدعامات الميكانيكية وعلى حاجتها من الماء والغذاء من التربة، وعندما تنمو وتتكاثر أوراق الأشجار المُفْتَرِسَة ويشتد عودها مع الأيام، تصبح الأشجار المُفْتَرَسَة من غير ذات نفع للأشجار المُفْتَرِسَة، فتصنع الأشجار المُفْتَرِسَة من جذورها طبقة من أنسجة كثيفة في شكل شبكة تطبق بعنف على جذور الأشجار المُفْتَرَسَة فتخنقها حتى الموت، فتنفرد بذلك الأشجار المُفْتَرِسَة بالحياة. والتنافس بين نباتات وأشجار الغابة يكون –كما في النظام الدولي- على الطاقة (ضوء الشمس). فإذا ما حدث خراب ودمار في الغابة بسبب معركة بين الأفيال مثلاً أو بسبب حريق برية أو بفعل إنسان وترتب عن ذلك انهيار في نظام الغابة المترابط ونشأت فوضى تشظت على إثرها الغابة إلى أشجار متفرقة وشجيرات، تدخل نباتات الغابة في سباق تنافسي محموم جديد لتحصل على ضوء الشمس أو الطاقة. الكل يسعى للصعود إلى الأعلى على حساب الآخر، ومن يصل أولاً يبسط أغصانه وفروعه على أغصان وفروع منافسيه ليحجب عنه مصدر الطاقة. ولو توافقت كل أشجار الغابة فيما بينها ووضعت حداً لسباقها المحموم نحو الأعلى، لوفرت على نفسها كثيراً من الطاقة ولنالت كل شجرة كفايتها من ضوء الشمس دون أن ينقص منه شيء، ولجاءها الضوء من فوقها ومن تحت أرجلها. ولكن، تقضي المشيئة ألا تتوافق أشجار الغابة وتمضي حثيثاً في تسابقها المحموم نحو الأعالي، كل شجرة تعمل على حجب الشمس بتاجها عن الشجيرات والأشجار الأخرى. هكذا هو إذن ما يجري على الساحة الدولية، وهو في حدود المنطق والمعقول إذا ما نظرنا إليه بعيون غابية. و"الدنيا لمن غلبا" كما في بيت قصيد أسير المحبسين وحكيم المعرة: من ساءه سَبَبٌ أو هاله عجبٌ فَلِي ثمانون عاماً لا أرى عجبا الدهرُ كالدهرِ والأيامُ واحدة والناس كالناس الدنيا لمن غلبا