صلاح يفتح النار: شخص يريد رحيلي.. وليفربول تخلى عني    تحذير علمي: السمنة تُسرّع تراكم علامات الزهايمر في الدم بنسبة 95%    بكري المدني يكتب: كردفان-لا شيء يدعو للقلق!!    بيل غيتس يحذر : ملايين الأطفال قد يموتون بنهاية هذا العام    السودان.. احتجاز مدنيين في 6 مناطق بأمر الميليشيا    هيئة مياه الخرطوم تعلن عودة محطة كبيرة للعمل    المريخ يستضيف كيجالي وعينه على الانتصار    الجزيرة تقسو على الجامعة في دوري الدامر    الرابطة السليم يكسب شكواه ضد الأمير دنقلا    شاهد بالصور.. بحضور عدد من المطربين أبرزهم محمد بشير.. الفنانة أفراح عصام تفتتح محلها التجاري الجديد بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. العروس "ريماز ميرغني" تنصف الفنانة هدى عربي بعد الهجوم الذي تعرضت له من صديقتها المقربة الفنانة أفراح عصام    بالصورة.. سيدة أعمال سودانية تشعل ثورة من الغضب داخل مواقع التواصل بعد تعذيبها لخادماتها الجنوب سودانيات بالقاهرة والسبب مجوهرات ذهبية    شاهد بالصورة والفيديو.. سودانية تظهر ب"تشيرت" المنتخب الوطني وتهدي لاعبي صقور الجديان أجمل "زغرودة" وزوجها يحمسها: (أبشري بالخير)    بعدما لقطتها كاميرات القناة الناقلة للمباراة.. شاهد ماذا قالت مشجعة صقور الجديان الحسناء عن لقطة إنهيارها بالبكاء: (راسنا مرفوع وما دموع انكسار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة ريماز ميرغني تخطف الأضواء وتبهر الحاضرين في "جرتق" زواجها    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة ريماز ميرغني تخطف الأضواء وتبهر الحاضرين في "جرتق" زواجها    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    تكريم الفنان النور الجيلاني بمنطقة الكدرو    خسارة المنتخب الوطني بهدفين نظيفين من المنتخب العراقي    سلطة الطيران المدني تعلن عن فتح مسارين جويين جديدين بالسودان    أطباء بلا حدود: أكثر من 1.5 مليون سوداني فروا من الحرب إلى مصر    للمرة الأولى.. السعودية تواجه نفس الخصوم في كأس العالم    فوائد النعناع واستخداماته العلاجية.. تعرّف عليها    ترامب .."لا أريد الجوائز... أريد إنقاذ الأرواح"    السكري وصحة الفم.. علاقة متبادلة    السودان يندّد بالمذبحة الجديدة    رئيس مَوالِيد مُدَرّجَات الهِلال    نتيجة قرعة كأس العالم 2026.. تعرف على طريق المنتخبات العربية في المونديال    بالصورة.. الفنانة أفراح عصام تفتح النار على مطربة شهيرة عقب نهاية حفل زفاف ريماز ميرغني: من عرفتك نحنا بنسجل في البرنامج وانتي في محاكم الآداب وقبلها المخدرات مع (….) وتبقي فنانه شيك كيف وانتي مكفتة ومطرودة!!    "يارحمن" تعيد الفنانة نانسي عجاج إلى القمة.. أغنية تهز مشاعر السودانيين    تنويه عاجل لهيئة مياه الخرطوم    كامل إدريس يوجه برفع كفاءة قطاع التعدين    تصريحات ترامب المسيئة للصومال تثير غضبا واسعا في مقديشو    قرار عاجل لرئيس الوزراء السوداني    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    إدارة ترامب توقف رسميا إجراءات الهجرة والتجنيس من 19 دولة    إدارة التعدين بولاية كسلا تضبط (588) جرام و (8) حبات ذهب معدة للبيع خارج القنوات الرسمية    الخرطوم تعيد افتتاح أسواق البيع المخفض    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    بشكلٍ كاملٍ..مياه الخرطوم تعلن إيقاف محطة سوبا    فيلم ملكة القطن السوداني يحصد جائزة الجمهور    إحباط تهريب كميات كبيرة من المخدرات والمواد الخطرة بنهر النيل    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    العطش يضرب القسم الشمالي، والمزارعون يتجهون للاعتصام    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    وصول 260 ألف جوال من الأسمدة لزراعة محاصيل العروة الشتوية بالجزيرة    مصر.. تحذيرات بعد إعلان ترامب حول الإخوان المسلمين    شاهد.. بعبارة "كم شدة كشفت معادن أهلها" صورة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تزين شوارع العاصمة السودانية الخرطوم    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



… في تَديُّنِ الدَّولةِ ودّوْلّنَة الدِّين: كيف تُلْغَى أخطاء وخطايا الديكتاتوريّات بعد الثورات؟
نشر في السوداني يوم 08 - 04 - 2021

ماذا حدث عندما نهضت كل القوى السياسيّة، عدا الجبهة الاسلاميّة القوميّة، لإلغاء قوانين سبتمبر 83 عبر الآلية الديمقراطية؟
على الثورة التي هزمت الديكتاتوريّة أنْ تُعيد الدولة لمنصّةِ التأسيسِ وتحاسب المظالم وتعالج الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها الانقلابات العسكريّة
إرادة الانقلابات العسكريّة أضرّت بالتطورات وزرعت قنابلَ موقوتة تفجِّر الانتقال لمرحلة جديدة، ويجب فوراً إلغاء ما أحدثته الانقلابات من تغييراتٍ جذريّةٍ
إرادة الثورة وتحديات التغيير يجب أنْ تبدأ مُنطلِقة مُتعافية وغير مُكبّلة بجرائم الأنظِمة الانقلابيّة التي سرقت السُلطة وانتجت الأخطاء الجسيمة بل الخطايا.
نجاح الثورات لا يقف في حدود إسقاط الأنْظِمَة وإلَّا ضاعت تضحيات السنين، وهُدِرَ دم الشهداء وتفرّق بين عوامل الفشل العديدة.
المُفَكِّر شحرور: الدِّين يحرِّم ويأمُر وينْهي ولكنه لا يَمْنَع، لأنّه لا يملك أداة المنع، والقِيَم الإنسانيّة من الدِّين وتُمثِّل المرجعيّة الأخلاقيّة للدولةِ والمُجتمعِ
لا يُمْكِن استعمال الدِّين كمرجعيّة لشرعيّة السُلطة التي يجب أنْ تأخُذها من الدولة الحديثة والمواطن.
كتب الزميل ضياء الدين بلال مقالاً بعنوان "بُنْدُقيّة الحلو..!!"، افتتحه بقوله "ما يقلق في اتّفاق المبادئ المُوقّع بين البرهان والحلو، تصديرهُ انطباعاً مُثيراً لفتنٍ كقطع الليل. وهو أنّ السيد عبد العزيز الحلو، استطاع فرض خيار فصل الدين عن الدولة بقُوة السلاح، وعبر التّهديد بالانفصال!!"
في أحد قروبات (واتساب) للتواصل الاجتماعي، دار بيني وضياء الحوار التالي:
– عصام: يا حبيبنا ضياء الدين بلال.. كيف فُرِض خيار ربط الدين بالدولة؟ أليس بالسلاح والانقلاب العسكري؟ ألَمْ تَفْرِض جماعات الإسلام السياسي قوانين سبتمبر على خلفيّة انقلاب مايو 69؟ وماذا حدث في السودان بشأن ربط الدين بالدولة بعد سرقة كل السُلطة بانقلاب يونيو 89؟ كل ذلك تمّ بالسلاح والانقلابات العسكرية. أليس كذلك؟
إذن المطلوب أنْ نعود لما قبل كل ذلك بذات الطريقة أو بالتي هي أحسن، وعندها يتساوى الجميع ويبدأون النظر في مستقبل جديد للسودان كيف يكون وكيف يُحْكَم بعيداً عن السلاح والانقلابات العسكريّة مع بناءِ وترسيخِ ديمقراطيّة مُسْتدامة.
+ ضياء: تُشْكَر دكتور عصام.. الوضع أصبح أكثر تعقيداً ويحتاج لمعالجات حكيمة. كما علينا رفض فرض العلاقة عبر القوة، علينا كذلك رفض منعها عبر القوة. الأمر يُحْسم عبر الأليات الديمقراطيّة للخروج من الدائرة اللعينة.
– عصام: اتفق معك يا صديقي ضياء أنّ الوضع مُعقّد، وأصبح أكثر تعقيداً لا بعد الثورة ولكن مُنْذ الانقلاب على النظام الديمقراطي لتكريس فرض الفِكْرة بالقوةِ.
وعن حسْمِ الأمر عبر الأليات الديمقراطيّة للخروج من الدائرةِ اللعينةِ، دعني أذكِّرك بما لا يُنسى. ماذا حدث عندما نهضت كل القوى السياسيّة، عدا الجبهة الإسلاميّة القوميّة، لإلغاء قوانين سبتمبر 83 الشائهة كخطوة نحو إيقاف الحرب لاستتباب السلام والجلوس في مؤتمر دستوري جامع وعريض وفقاً لمبادرة الميرغني – قرنق؟
لجأ قادة الجبهة الإسلاميّة القوميّة لقوة السلاح مستغلين العسْكَر الذين جنّدوهم لذلك الأمر مِمّا يؤكد تعمُّد وترصُّد استخدامه واستخدامهم وقاموا بانقلابِهم العسكري في 30 يونيو 1989، وأخذوا كل السُلطة أخذاً بقوة السلاح، وأوقفوا مشروعاً وطنياً سلك درب الآليات الديمقراطيّة.
يجب رفض علاقة الدين بالدولة التي فرضتها انظِمة عسكريّة عبر السلاح لتمييز فِكْرة على أفكار أخرى، ورفضها بكل الأشكال المُتاحة لأجل العودة للوضع الصحيح الذي كان قبل ذلك، وإلّا سيكون الأمر اعترافاً بتلك العلاقة وتمييزها وجعلها نقطة لا عودة منها.
والحقُ أبلج يا صديقي، وأرجو أنْ تتّفِق معي بأنْ جماعات الإسلام السياسي تميّزوا عن غيرهم بفرضِ برنامجهم بقوة السلاح وسطوة العَسْكر والسُلطة الغاشمة واحتكارها.
العودة لمنصّةِ التأسيسِ، لما قبل التغييرات التي احدثتها الانقلابات، وحدها هي التي تتيح وتحقق بدء التنافس الديمقراطي الحُر الذي يتطلب أنْ يتساوى ويتعادل المشاركون فيه لينطلِقوا من نقطةِ انطلاق واحدة ومُشتركة والتنافُس لوصول "الميس"، أي الحُكْم، وتبادُله سلميّاً وبالانتخاب وليس الانقلاب.
ليس مطلوباً الدِخول الآن في مؤتمرٍ دستوريٍ جامع يعالج الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها الانقلابات العسكرية والديكتاتوريات التي فرضتها، فهذه مُهِمّة تقوم بها الثورة التي اقتلعت الديكتاتوريّة وهزمتها.
على الثورة أنْ تُعيد الدولة لمنصّةِ التأسيسِ وتحاسب الديكتوريّات وما ارتكبته من مظالم عبر مَن فعلوا كل ذلك، ومن ثمّ تدعو لمؤتمرٍ جامعٍ دستوري يحدد مستقبل دولة السودان، مدنيّة أو دينيّة، وكيف يُحْكَم، وشكل نظام الحُكْم التعدّدي الديمقراطي.
ثِقْ أنّ تلك هي المعالجة الحكيمة لخريطة الطريق التي تقودنا نحو الاستقرار والسير في مشروع بناء ونهضة ومستقبل أفضل للأجيال التي صنعت الثورة وستصنع التغيير بحراسةِ ثورتها وتعديل مسارها كُلّما تطلّب الأمر ذلك.
كتبت عن ذلك يا ضياء في يناير 2019، أي قبل انتصار الثورة، في مقالٍ تحت عنوان "السودان وتحديّات التغيير، احتمالات تبديد المكاسب، وفُرص تحقيق أهداف وأحلام جِيل في حَياةٍ أفْضَل"، ادناه رابط المقال:
http://www.sudanile.com/index.php/1013-5-3-8-1-1-2-7/111775-
وأسمح لي أخي ضياء بأنْ اقرأ لك ومعك من المقالِ أعلاه ما يعضّد ردّي على طرحك، وليكون أيضاً ردّاً على كلٍ الذين يرفضون "اتّفاق المبادئ المُوقّع بين البرهان والحلو" وأهمّ ما فيه فصل الدِّين عن الدولة. ولأقدِّم أيضاً مساهمة متواضعة للمفاوضات التي من المُفترض أنْ تقوم على خلفيّة ذلك الاتفاق.
نشرْت ذلك المقال والحراك الشعبي حينها – يناير 2019 – لم يصبح ثورة كاملة الدسم، أي قبل أشْهُر من انتصار ثورة الشباب في 11 إبريل 2019. وقد كان مُتاحاً أمام الذين تفاوضوا باسمِ الثورةِ مع المجلسِ العسكري أنْ يضعوا مطالب الثورة واضحة جليّة للمجلس، وبعدم الموافقة عليها كان عليهم أنْ يخرجوا للاعتصام ويصارحون الشعب المُعْتَصِم أمام القيادة العامة. كان شباب الثورة الذين اقتلعوا النظام البائد قادرين على حَسْمِ الأمر. حسَماً نِهائيّاً.
كتبت حينها: أنّ الحِراك الشعبي أو الهَبَّة الشعبيّة لا محال ستتحول إلى ثورة تدُكّ قلاع الظُلْم وتفتح لمستقبل الحريّة والديمقراطيّة الحَقَّة، بَيْدَ أنّه تحوم وستحوم حولها، وتحيط وستحيط بها عوامل – لا أقول سَرْقَتها – وإنّما اشدِّد، تتربّص بها عناصر الانحِراف بالثورة حتى لا تتماسك الحلقات المُترابِطة لحزمة التغيير المُنتظر في كلِ جوانبه، السياسي، الاقتصادي، الإداري، القانوني، التشريعي والاجتماعي لإعادة الوطن المُختطف لحاله الأساسي في منصَّةِ التحرير مطلع يناير 1956، ولم ينطلِق من حينها نحو التعمير الحقيقي والصحيح لتشكيلِ الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة القائمة على الاعتراف بالتعدديّة السياسيّة والعِرقيّة والدينيّة والثقافيّة، عِلْماً بأنّ الاعتراف بها وحدها ليس كل شيء، فالأهم احترامها وترسيخها وجعلها محل وفاق قومي لا عُرْضَة لطموحات وأهداف وأشواق أقليّة أو أغلبيّة بالانتخاب أو بالانقلاب، لتنطلق البلاد نحو التنميّة المتوازنة التي يقدِّم المواطنون في سبيلها الواجبات قبل أنْ يَسْألوا عن الحقوق، وتقدم إليهم الدولة الحقوق في قِسمةٍ مُتوازيةٍ ومُتساويةٍ قبل أنْ يَسْألوها. فكيف تتم العودة بالسودان لتلك المنصَّة، وكيف يتحقق كل ذلك؟
يجِب، بادئ ذي بدء، إدانة كل الانقلابات العسكريّة التي حدثت في السودان منذ استقلاله وعدم الاعتراف بما أنْتَجَت، وبجرة قلم واحدة إلغاء كل ما قامت به في كل تلك المجالات خاصة المسائل التي تُدِير وتسَيِّر الحياة اليوم وغداً، أي تفَعل فِعْلها في الحاضر والمستقبل. وتلك مسائل لا تقبل المُساومة ولا التفاوض ولا إطالة أمدها الذي يقود للتسويف.
إرادة الانقلابات العسكريّة أضرّت بالتطورات التي شهدتها البلاد وزرعت قنابلَ موقوتة تفجِّر الانتقال لمرحلة جديدة، ويجب فوراً إلغاء ما أحدثته الانقلابات من تغييراتٍ جذريّةٍ.
وإرادة الثورة وتحديات التغيير يجب أنْ تبدأ مُنطلِقة مُتعافية وغير مُكبّلة بأخطاء وجرائم الأنظِمة الانقلابيّة التي سرقت السُلطة وانتجت الأخطاء الجسيمة بل الخطايا التي يجب أنْ تُحاسب عليها كأنظِمة أوّلاً قبل الأفراد الذين صنعوها أو شاركوا فيها، بأنْ يُلْغى كُلّما ارتكب باسمها وفي ظِلها وتحت جبروتها وعُنفها وقهرها وظُلمها.
وعليه، إذا لم يحصل وفاق وطني شامل بين قوى الثورة والتغيير على تلك الخطوط الأساسيّة للانتقال لمربع جديد، فإنّ ثورة التغيير تكون قد فشلت قبل أنْ تنجح، وبُدِّدت التضحيات قبل أنْ تُسْتَعاد الحقوق.
وفي هذا الإطار الاساسي لثورة التغيير يجب إحاطة العالم كله، وقد سبق وأحيط بذلك من القوى التي عملت من أجل التغيير خلال فترة حُكْم انقلاب 17 نوفمبر 1958 وانقلاب 25 مايو 1969 وانقلاب 30 يونيو 1989، بالالتزام بكافة المواثيق الدوليّة واحترامها، والأهم والذي يجب تأكيده الآن بِشِدَّة، عدم الاعتراف بما أنتجته معهم تلك الأنظمة في ما يتعلق بالديون التي تكبل مستقبل البلاد وتعيق انطلاق التطور الاقتصادي.
الشعب السوداني يريد أنْ يَفْتَح صفحة جديدة في الداخل بين مكوناته ومع الخارج في كل ما يتعلق بما حدث له في الماضي من أجل مستقبل مُشْرِق، فالبلاد واعدة وتستطيع أنْ تحقق فائدة لمصلحة شعبها وفائدة مشتركة بينها وبين الأطراف الخارجية في إطار ثنائي أو متعدد الأطراف.
تلك هي باختصار دون إسهاب، قضايا التغيير الأساسيّة التي يجب تضمينها أي وثيقة إنْ كانت ميثاقاً أو دستوراً انتقاليّاً باعتبارها ثوابت وفاقيّة، وطنيّة، جامعة، يتأسس عليها نظام الحكم ودستور البلاد، وغيرها التِفاف وتبعيض وتسويات وترضيات ومماحكات ومماطلات هي كل أدوات سرقة الثورات ووقف التغيير في حدود إسقاط أنظِمة وقيام بديل لها، وهذا هو عَيْن ما حدث في أكتوبر 64 وفي مارس-إبريل 1985، وكل الأمل والرجاء ألَّا يحدث ذلك مع التغيير الذي يطرق الأبواب الآن.
إنّ نجاح الثورات، وبالأخص في حالتنا السودانية الراهنة، يجب ألّا يقف في حدود إسقاط النظام وإلَّا ضاعت تضحيات السنين، وهُدِرَ الدم الذي سال من الضحايا وضاعت أرواح الشهداء وتفرقت دماؤهم بين عوامل الفشل العديدة. والحراك الشعبي الثوري الحالي يجب ألَّا يتوقف بذهاب رأس الحُكم وسقوطه مقابل بقاء قواعد الحُكم الفاشل، واستمرار نهجه بملامح وأدوات أخرى وإنْ أصبحت أقلّ تنكيلاً، وإلَّا فما معنى التغيير أصلاً؟ ولماذا التغيير؟ وما هو المَنْشود من التغيير؟
الثورة الناجحة لا تنتهي مهمتها بإسقاط النظام، وإنّما يجب أنْ تفتح الباب للتغيير المطلوب، والتغيير بالثورة يَرُد الحقوق لأهلها، فيُحاسَب بالقانون من أجْرَم، ويجعل معركته الفكريّة مع جماعات التطرُّف تقود للتعافي والتسامح والتعايش بدلاً عن البُغْضِ والكراهيّة التي زرعها كثير من مُفكِري الهَوس الدِّيني والتطرُّف والانغِلاق في عقول بعض السُذج والبسطاء وضِعاف الفِكر، فاستسهلوا فتح عقولهم وقلوبهم لثقافة الغُلو والقتل والموت بدلاً عن التسامح والحياة والتعمير والبِناء.
كان ذلك يا صديقي ضياء الدين بعضاً مِمّا كتبته حينها، ومن حينها جرت مياه كثيرة تحت جسر الحِراك الشعبي الذي تحوّل لثورة. وانتصرت الثورة. وحدث ما حدث حتّى وصلنا لاتفاق البرهان والحلو.
كان من المُفترض أنْ تُطْوى صفحة فصل الدِّين عن الدولةِ بإلغاءِ كل ما أنتجته الأنظِمة الديكتاتوريّة السابقة بجرةِ قلمٍ في الوثيقةِ الدستوريّةِ أو أيّة وثيقة تؤسِّس لنظام ما بعد سقوط الإنقاذ. لم يحدث ذلك، وهذا خطأ يجب مُعالجته، بالتي هي أحسن أو بضغط من الحلو أو عبد الواحد نور وفي الانتظار أيضاً أنْ يتولى شباب الثورة تصحيح مسار ثورتهم. لم نَكُنْ نحتاج لحديثٍ عن إلغاءِ القوانين بالتقسيط أو القطاعي. إلقاء نظامي انقلابي 25 مايو 69 و30 يونيو 89 في مزبلةِ التاريخ بحمولاتهما كافة، كان كفيلاً بنَقْلِ السودان إلى مُربعٍ جديدٍ ومن ثَمّ الجلوس في مؤتمرٍ دستوريٍ، لا العكس كما يطلب الذين يريدون الاحتفاظ بتميزهم عن غيرهم.
المُفكِّر شحرور وفصل الدِّين عن الدولةِ:
تبقى القول في مسألة تَديُّنِ الدَّولةِ، أي أنْ تصبح الدولة متديّنة بدِينٍ.. ودّوْلّنَة الدِّين، أي جعل الدِّين دولة وسُلطة، أنّ المُفَكِّر السوري الدكتور محمد شحرور – توفي يوم 21 ديسمبر 2019 عن عمرٍ يناهز 81 سنة – يقول في تلخيص بجملٍ قصيرة حول مفهوم علاقة الدِّين والدولة: الدِّين لا يملك أداة الإكراه بنوعيه، الكُرْه والكَرَه. الأول فيزيائي والثاني نفسي. الدولة تملك أداة إكْراه، وهذا هو فرق بينهما أساسي. لا يُمْكِن استعمال الدِّين كمرجعيّة لشرعيّة السُلطة، فالسُلطة تعني الإكْراه. مَن يملك سُلطة يعني أنّه يملك أداة إكراه. الشرعيّة لا تأخُذها من الدِّين، فالدِّين لا يمنحك الشرعيّة. وعليه تأخُذ السُلطة شرعيتها من الدولةِ الحديثةِ ومن المواطنِ وليس من الدِّينِ. وهذا ينفي وجود أي دولة دينيّة، ودولة سيدنا الرسول كانت دولة مدنيّة.
ويضيف المُفكّر شحرور في حوارٍ تليفزيوني قصير: الدين يُحَرِّم ويَأمُر ويَنْهي ولكنه لا يَمْنَع، لأنّه لا يملك أداة المَنْع. أمّا الدولة فتَأمُر وتَنْهى وتَمْنَع لكنها لا تُحَرّم.. الدولة لا تملك إطلاقاً سُلطة التحريم. لا الدولة ولا البرلمان، ولا هيئة كبار العلماء، ولا الازهر ولا النجف ولا قُم بينهم من يملك أداة التحريم.
ويشرح شحرور قائلاً: يُمْكِن فصل الدِّين عن السُلطة، ولا يمكن فصل الدِّين عن المُجتمع. القِيَم الإنسانيّة من الدِّين، وتُمثِّل المرجعيّة الأخلاقيّة للدولةِ والمُجتمعِ. لا يصير أنْ تكون الدولة بدون مرجعيّة أخلاقيّة.
ويضيف موضِّحاً: مُهِمَّة الدولة ليس ارسال الناس إلى الجنّة، ولا إبعادهم عن النار والعكس صحيح. مُهِمَّة الدولة هي احترام خيارات الناس والدفاع عن خياراتهم بحيث لا يتعدى بعضهم على بعض، وعليها تنظيم خياراتنا والدفاع عنها.
وبرأيه: كلِّما علت المناصب في الدولة زادت المسؤوليّة الأخلاقيّة. بمعنى أنْ يكذِّب عَلَيّ بائع طماطم غير أنْ يكذِّب عَلَيّ وزير.
ويختم المُفكِّر الدكتور محمد شحرور بقوله: سُلطة الدِّين مرجعيّتها الضمير، أي الخوف من الرّبِ، وسُلطة الدولة مرجعيّتها القانون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.