يقول شواين لاي، أول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية، في تلخيص رؤيته لمتغيرات العالم، إنها "انقسامات جديدة… تحالفات جديدة… ثم فوضى في كل مكان"، وذلك ينطبق بأي شكل من الأشكال على حال الدولة السودانية فيما مضى من تاريخها وانتهاء بحقبتها الثورية الحالية. ظلت على الدوام هناك مشكلة حقيقية في إدارة الدولة لأن النخب المدنية أو العسكرية لم تتمتع بالأفق الوطني الذي يستوعب ماهية تلك الإدارة بتجرد من أي ضغط أو التزام نفعي يتعلق بولاء أو انتماء قاصر لحزب أو مذهب أو عقيدة، فقد كان كل شيء يتم في إطار المصلحة الضيقة التي ازدادت ضيقا مع الوقت والتاريخ حتى ورث الجميع دولة مترهلة وغير مستقرة. أذكر أن أحد الذين عاصروا فترة الاحتلال البريطاني كان ناقماً وهو يتحدث عن تضييع كثير من الإرث المدني في إدارة الاستقلال والدولة بعده، وانتهى إلى أن تلك النخب كانت "هشة"، وهو محق فقد بدأت عواصف وتقلبات المشهد السياسي بعد أقل من عامين من الاستقلال بتسليم السلطة والدولة للعسكر تسليم مفتاح، ثم ثورة ومدنية هشة، في متوالية انتهت إلى اللحظة التاريخية الماثلة التي تجسّد حجم المأساة العظيمة في الإدارة السياسية للدولة وغياب الإرادة في التغيير. ليس هناك تماثل مع الحالة السودانية يمكن أن يستعيد دورة التاريخ مثل حالة عصبة الدفاع عن الجمهورية في إسبانيا، وهي حالة ثورية أيضا، وقد وصلت مع فقدان البوصلة الثورية وتضييع الدولة وتوهان النخب الحاكمة إلى صياغة بيان قالوا فيه "عندما طلبنا العدل أخذوا منا الحرية، وعندما طلبنا الحرية كان كل ما حصلنا عليه هو سيرك برلماني هزيل". الشعب في ثورته طلب العدل وكان الذي حدث هو قتل وتشفّي وجلد بالسياط واستخدام مفرط للقوة لا يتناسب مع حالة التغيير السلمي والديموقراطي، وهنا تمت مصادرة الحرية بشكل مباشر، أما الشكل غير المباشر، وهو يزيد سوءا، فيتمثل في مصادرة واختطاف الرأي الحقيقي بشراء الذمم والعبث بالعقول والتهاون في محاربة الفساد والمفسدين، والتراخي في إدارة الشأن العام، وإدعاء الكفاءة حتى أن العسكريين أصبحوا صنّاع حياة سياسية. ليس من رؤية مؤثرة تواكب فكرة إدارة الدولة من منظور نزيه وعقلاني يتناسب مع الفعل الثوري والحاجة إلى التغيير وتطوير الواقع، وذلك يبدأ بكثير من الأسئلة تبدأ من أعلى ولا تنتهي بنهاية تكتم حق الناس في التعبير عن رفضهم لدولة تائهة، ونخب غير جديرة على الإطلاق بأن تقود البلاد، ومن لم يُحسن ذلك في فترة انتقالية ليس بها ضغط برلماني فهو لن يحسن الممارسة السياسية تحت الضغط. من واقع الحال لا يبدو مجلس السيادة يعمل من أجل هدف معين، وربما ابتداء من رئيسه وحتى آخر عضو فيه يعملون بمعزل عن بعضهم، ولمّا كان هذا المجلس عبئا سياسيا لا يجيد إدارة الدولة، وقبل أن يحسّن أداءه أو يرتفع إلى طموحات الناس في إدارة أبسط شؤونهم، حدث العبء الجديد بظهور المجلس المشترك. هذه الدولة لا تعمل وفقا لتخطيط أو تنظيم يصل بالفترة الانتقالية إلى أجلها المحتوم ليتحول الناس عن التجربة الثورية إلى البناء الوطني من خلال دولة المؤسسات، وما يحدث هو استمتاع الحاكمين بغطاء الفترة الانتقالية ومحاصصتها السهلة دون إمكانية للذهاب بالدولة بعيدا عن مرحلة السكون والركون التي عليها حاليا. هذه الدولة الحالية تواضعت بأفق وأحلام الناس إلى أدنى مستوى، ولو أن أي تنفيذي فرحان بمقعده فيها فتح كتاب إدارة الدولة لوجد دليلا واسترشادا يعينه على توفير خبز الناس دون مشقة، ووقود سياراتهم دون امتهان، وعلاج أمراضهم دون تماس مع الموت، وكهرباء يكون أقصى الآمال أن تستمر ليوم دون قطوعات فيما يبشر الوزير المعني جموع الشعب بأنها مستدامة حتى ستة أسابيع!! ليس هناك أخطر على المستقبل من شكل إدارة الدولة الحالي لأنه يؤسس لمزيد من الإضعاف لقدرات الدولة، ويجعلها أكثر ارتهانا للحلول القادمة من وراء البحار والتي تمارس مزيدا من الضغط وتصبح معها راكدة ولا تتحرك، وهي دولة تحتمل كثيرا من التضليل ولن يطول بها الأمد قبل أن تحتاج إلى الاستبداد الأمني والسياسي بمسوّغ المحافظة على المصلحة العامة. الفشل في التخطيط إنما هو تخطيط للفشل، ولا يمكن إدارة الدولة بطريقة وضع العربة أمام الحصان، والانكفاء على الحصص السياسية دون معالجة إدمان السلطة والقفز عليها دون استحقاقات تنتهي بالدولة إلى مطلوبات مواطنيها، والواضح الآن من انهيار حياة الناس وضيق أحوالهم حتى تكسير عظامهم أن الوحيدين الذين لا يعرفون إدارة الدولة بين السودانيين هم الحاكمون وليس غيرهم.