بينما كان الحجاج في مجلسه إذ دخل الحاجب، وقال: امرأة بالباب. فقال الحجاج: ادخلها، فكانت ليلى الأخيلية، وجاءت حتى جلست بين يديه، وشكت حالها ثم أنشدته شعراً قالته فيه، حتى إذا ما بلغت منه قولها: (فما ولَد الأبكارُ والعُونُ مِثلَه ... ببحرٍ ولا أرضٍ يَجفّ ثرَاها)، صاح الحجاج: حسبك، قاتلك الله، ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرك؛ قالت: إني قد قلت أكثر من هذا؛ قال: حسبك، ويحك حسبك. ثم التفت إلى غلامه وقال: إذهب إلى (فلان) وقل له إقطع لسانها. فذهب بها، وقال يقول لك الأمير: أقطع لسانها. فأمر بإحضار الحجَّام. فالتفتت إليه وقالت: ثكلتك أمك أما سمعت ما قال، إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة. فبعث إلى الحجاج يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً وهم بقطع لسانه هو، ثم قال: أرددها إليَّ. فلما دخلت عليه، قالت: كاد وأمانة الله أن يقطع مِقولي، ثم أنشدته شعراً مدحته فيه، فأثابها عليه بمائة من الإبل برعاتها، وزاد بإجابة طلبها بالدفع إليها بالنابغة الجعدي الذي كان يهجوها وكانت تهجوه، فلاحقته حتى خراسان. ما يهمنا مما تقدم، هو (سيد فلان) الذي جاءه أمرٌ رسمي من رئيسه، وَهَمَّ بتنفيذه دونما توانٍ أو تأجيل عمل اليوم إلى الغد، وأمر من فوره بإحضار الحجَّام لإنجاز المهمة. ولكن حينما تبين لفلان هذا بعد المراجعة أن الأمر "حمَّال وجهين"، إذ يجوز في تفسيره قطع اللسان من "لغاليغه" أو قطعه بالصلة والإحسان لصاحبته، لم يكابر "فلان" هذا أو يتعصب لرأيه، بل عمد إلى التثبت، دون تهيب أو وجل من رئيسه، وإن كان هذا الرئيس هو الحجاج بن يوسف الثقفي، نموذج العسف والظلم والطغيان. ولو كان التاريخ منصفاً لأنصف "فلاناً" هذا ولحفظ لنا اسمه على أقل تقدير، ولما جعله نكرة بينما خلد -أسماء الآخرين، بل لسجل لنا بمداد من نور إنجازه هذا بعد أن ينسب إليه موقفه هذا الذي لم يتسقط فيه رغبات الأمير. ولكن التاريخ لا يعني بأمثال هؤلاء الأخفياء الأتقياء من موظفي الخدمة العامة من أمثال "السيد الفلان"، الذين لا يفتقدون إذا ما غُيِّبوا ولا يعرفون إذا ما حضروا.وعلاقه سيد فلان النكرة بالامير الحجاج بن يوسف هي اصدق صورة لعلاقات منسوبي الخدمة المدنية برؤسائهم من الوزراء و الامراء والساسة في كل زمان ومكان انعكاس لطبيعة وجدلية العلاقة بين العمل الاداري والعمل السياسي.وما يجري بينهما في اروقه ودوائر الحكومة في ازماننا هذ ومن النماذج المعاصرة في علاقات السلطة السياسية بمنسوبي الخدمة المدنية ما ترويه حلقات الكوميدية البريطانية "نعم .. سيدي الوزير" Yes.. Minister "والتي من المؤكد قد شاهدها الكثيرون من القراء , وتتعلق الحلقات بما يدور في أروقة الحكومة البريطانية بين الساسة وكبار موظفي الخدمة المدنية. تتمحور الحلقات حول شخصيتين الوزير ( هاكر) ووكيل الوزارة ( همفري) . وسميت الحلقات بهذا الاسم (نعم .. سيدي الوزير Yes minister") لأن كل حلقاتها كانت تنتهي بهذه العبارة التي يرددها ( وكيل الوزارة همفري). تبدأ القصة بفوز حزب هاكر بالانتخابات وتعيينه وزيراً في احدى الوزارات حيث يعمل مع الوكيل همفري , والاثنين مصالحهما متضاربة للغاية. فالوزير "هاكر" كان كل همه منصبا على الحفاظ على شعبيته وإدارة الوزارة وفق سياسات حزبه . ويرى هاكر أن قيامه بهذه المهمة -أو على الأقل تظاهره بالقيام بها- سيدعم مركزه الانتخابي. بالمقابل كان هم الوكيل همفري منصباً نحو الإبقاء على الأحوال بالوزارة على ما هي عليه وبمعزل عن الساسة والسياسيين ما أمكنه ذلك. من هنا، من هذا التنازع الحادث بين الاثنين نبعت الفكاهة التي حفلت بها الحلقات. وذكر اللورد دونوغ -والذي كان يترأس وحدة السياسات برئاسة الحكومة البريطانية في السبعينات- في هذا الخصوص أن بعض وزراء حزب العمال البريطاني حينما عادوا للسلطة في عام 1997 بعد غياب دام 18 عاماً قضوها في المعارضة، تعاملوا مع كبار موظفي الخدمة المدنية بحذر شديد وشكوك وارتياب زائد نتيجة تأثرهم بالصورة التي عكستها حلقات المسلسل عن موظفي الخدمة المدنية وعلاقتهم بالساسة والسياسيين. تضمنت الحلقات حوارات طريفه ومثال ذلك قول الوكيل همفري : (إنه من غير المنطقي أن يسمح للسياسيين بفصل الموظفين عن الخدمة على أساس عدم الكفاءة، بالطبع هناك بعض الموظفين من هم غير أكفاء ولكنهم ليسوا عديمي الكفاءة بالدرجة التي تمكن السياسيين من تمييز ذلك. بالمقابل، إن كان بمقدور الموظفين إزالة الساسة عن السلطة على أساس عدم الكفاءة فسوف لن يبقى في مجلس العموم أحد، ولشغر مجلس الوزراء كلية، ومن ثم تكون المحصلة هي نهاية الديمقراطية وبداية حكومة مسئولة). ويقول في موضع آخر: (إذا لم يقاتل موظفو الخدمة المدنية من أجل مصالح المؤسسات التي ينتسبون إليها فسوف ينتهي بهم الأمر بمصالح صغيرة لدرجة أنه حتى الوزراء يمكنهم إدارتها). ثم يضيف معلقاً في موضع آخر: (الساسة مثل الأطفال، فإنك كلما منحتهم ما يطلبونه؛ شجعهم ذلك لطلب المزيد). لقد صدقت السيدة تاتشر رئيس وزراء بريطانيا الاسبق حين قالت إن الحلقات تعكس بصدق حقيقة ما يجري في أروقة الحكومة البريطانية. إن في جدلية العلاقة بين العمل الاداري والعمل السياسي كما ترويها قصة سيد فلان النكرة والحجاج والوكيل همفري والوزير هاكر عبرة لاولي الالباب من قيادات الخدمة المدنية بكل مكان وزمان .فيا نساء ورجالات الخدمة المدنية اصبروا وصابروا و رابطوا وجاهدوا واحتسبوا في سبيل حيدتكم و رسالاتكم المهنية .