هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته عندما أجرى الرئيس البشير التغييرات الأخيرة في الحكومة وداخل حزب المؤتمر الوطني والتي أطاحت برموز كبيرة ظلت متواجدة في مشهد السلطة لأكثر من عقدين من الزمن كتبتُ مقالاً بعنوان (التغيير الوزاري : ماذا وراء الأكمة ؟) قلت فيه إنَّ هذه الخطوة لن تكون الأخيرة, و قلت كذلك في ختام ذلك المقال أنه إذا صدق تحليلي فإنَّ ( الأسابيع والشهور القليلة القادمة ستكون حاسمة في تاريخ السودان وربما تحملُ من المفاجآت ما لا يتوقعهُ كثيرٌ من الناس ). يبدو أنّ ذلك التحليل كان صائباَ في كثير من جوانبه حيث بات الشارع السوداني هذه الأيام يترقب صدور قرارات رئاسية تم وصفها بحسب التسريبات الكثيرة بأنها ستكون "مفاجأة", وسأحاول في السطور التالية النظر في مآلات الأمور بحسب ما توفر من معطيات في الواقع السياسي والإقتصادي. أبادر بالقول أنَّ سقف التوقعات لدى الشارع السياسي السوداني قد إرتفع كثيراً في الأيام الفائتة خصوصاً بعد التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بعد لقائه بالرئيس والتي قال فيها إنَّ الرئيس أكد له أنَّ ( خطوة مهمة سيتم اتخاذها قريباً) وكذلك بعد لقاء الرئيس بوفد الاتحادي الديموقراطي (الأصل) والذي لوحظ في تكوينه وجود القيادات المتشددة والرافضة للشراكة مع المؤتمر الوطني وفي مقدمتها الاستاذ حاتم السر المحامي الذي صرَّح بعد اللقاء بضرورة تقديم تنازلات من كافة القوى من أجل الوصول لحل قومي. لا حاجة لنا للتذكير بأنَّ الأزمة السياسية قد بلغت ذروتها في ظل استمرار الحرب في جبهات ثلاث ( دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ), وقد قال الممثل المشترك لبعثة اليوناميد في دارفور محمد بن شمباز الأسبوع الماضي إنَّ عام 2013 كان الأسوأ في تاريخ البعثة, وأنَّ الأوضاع الأمنية تدهورت كثيراً في الإقليم. ومن ناحية أخرى اشتدت الضائقة الاقتصادية و ظهرت بوضوح في الأزمات المتكررة في رغيف الخبز وغاز الطهي والجازولين والتي ثبت تماماً أنَّ سببها هو ندرة هذه السلع وليس الإجراءات الإدارية كما حاولت الحكومة التبرير كثيراً. يُضاف إلى ذلك حالة الحصار السياسي والعزلة الخارجية المستمرَّة منذ سنوات عديدة, وهي الحالة التي تزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية التي قال وزير المالية بدر الدين محمود إنها لن تحل إلا بتدفق "الدعم الخارجي". من الواضح أنَّ الرئيس أدرك خطورة هذه الأوضاع, وأنه لا يُمكن التعامل معها بالطريقة التي اعتادت عليها الحكومة طيلة السنوات الماضية والتي ترتكز على المناورة وتفتيت المعارضة وتقسيم القضايا, وأنه لا بد من اللجوء لنهج جديد يسمح بمشاركة واسعة حقيقية في السلطة تؤدي لوقف الحرب وإنتظام العملية السياسية والانفتاح الخارجي. بالطبع لن تؤدي القرارات التي سيتخذها الرئيس لسقوط نظام الإنقاذ وإحداث تغيير جذري حاسم, فالبلد لم تشهد ثورة شعبية عارمة كما حدث في مصر وليبيا وتونس, ولكنها ستؤدي - في تقدير كاتب هذه السطور – إلى تغيير شبيه بما حدث في "اليمن", وهو تغيير تم عبر "تسوية" سياسية لعبت فيها دول الخليج والمملكة العربية السعودية دوراً واضحاً. لم تنجح ثورة اليمن في اقتلاع نظام الرئيس السابق على عبد الله صالح, وكادت أن تؤدي لحرب أهلية شاملة بعد تصاعد العنف بين النظام وبعض رجالات القبائل وتمرد بعض فصائل الجيش, ونسبة للأثر الإقليمي الكبير الذي يلعبه البلد في استقرار المنطقة لم يكن واراداَ السماح بانهيار النظام و الإنزلاق نحو الفوضى, ومن هنا جاء تدخل دول مجلس التعاون الخليجي بسند وتأييد من المجتمع الدولي. نجحت المبادرة الخليجية في الوصول لتسوية أدَّت لتنازل الرئيس علي عبد الله صالح عن السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي, بعد ذلك أجريت إنتخابات كان هادي هو المرشح الوحيد فيها بتوافق الحكومة والمعارضة, حيث ترأس الحكومة الجديدة التي أوكل إليها معالجة مسائل العدالة الانتقالية واجراء حوار وطني شامل يمهد الطريق لصياغة دستور جديد وإجراء إنتخابات عامة. ليس بالضرورة أن يتطابق سيناريو اليمن مع ما سيحدث في السودان وقع الحافر على الحافر, ولكن معطيات الأمور تشير إلى أنه السيناريو الأقرب خصوصاً إذا استشعرت القوى المعارضة السياسية والعسكرية جدية في طرح الرئيس, فهي في الأساس لم تلجأ لحمل السلاح ومصادمة الحكومة ورفض المشاركة فيها إلا بعد أن يئست من إمكانية وقوع التغيير الحقيقي بالطرق السلمية. حديث الرئيس البشير لكارتر يمثل رسالة للمجتمع الدولي, ولأمريكا على وجه الخصوص فهي الدولة التي تستطيع لعب دور مهم في إقناع الفرقاء – خصوصاً الحركات المسلحة – بالمشاركة في التغيير القادم. الدول العربية, خصوصاً المملكة العربية السعودية, ستلعب دورا مهماَ في سيناريو التغيير القادم فمن الواضح أنها ستكون الدول التي يُعوَّل عليها في تقديم "جزرة" النجاح في الوصول للتغيير وذلك عبر الاستثمارات الكبيرة في المجالات الزراعية وغيرها, ولا تبدو تلبية جامعة الدول العربية لنداء الرئيس بالاستثمار في السودان مؤخراً بعيدة عن هذا الإطار, ولكن التعهدات التي تمَّت بتدفق الاستثمارات لن تتم دون حدوث اختراق سياسي كبير يضع البلاد في طريق الاستقرار السياسي والاقتصادي. إذا مضت قرارات الرئيس المرتقبة في هذا الاتجاه فإن من المتوقع أن تجد قبولاً من حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديموقراطي (الأصل) وحزب المؤتمر الشعبي, أمَّا أحزاب قوى الإجماع الوطني الأخرى فإنها ستكون أكثر تريثاً ريثما تتبيَّن مواقف حلفائها في الجبهة الثورية وهذه الأخيرة صدرت إشارات متفرقة من قبل بعض مكوناتها بإمكانية إستجابتها لدعوة الحكومة إذا تضمنت إشارات واضحة للقبول بمطالبها ومن بينها حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان فصيل مناوى. لن تبلغ القرارات المرتقبة غايتها إذا لم يقبل بها تحالف الجبهة الثورية, ولن يكون من المصلحة التركيز فقط على الاتفاق بين المؤتمر الوطني و الأحزاب السياسية الكبيرة لأنَّ ذلك سيُرسل إشارات خاطئة بأنَّ الخطوة قصد منها إحداث تحالف عريض في مواجهة الحركات المسلحة. أشار الرئيس البشير في مناسبات عديدة أنه لا ينتوي الترشح في الانتخابات القادمة, وقيل أنه أبلغ المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني صراحة بضرورة البدء في البحث جدياً عن مرشح للحزب في الانتخابات القادمة, وإذا صدق ذلك فإنَّ الرئيس ربما يتنازل لنائبه الأول عن مقعد الرئاسة كي يقود المرحلة القادمة. إذا حدث ذلك فإنه سيُعطي قرارته المرتقبة كثيراً من المصداقية خصوصاَ في أوساط القوى المعارضة وسيدفعُ مسار التغيير بقوة للأمام. أكتب هذا المقال وأمامي تصريحٌ لمساعد رئيس الجمهورية بأنَّ الرئيس سيعلن قراراته المرتقبة خلال 48 ساعة. إذا سارت القرارات في اتجاه إحداث تغييرات حقيقية في بنية النظام, وبما يحقق إجماعاً وطنياً شاملاً تقبل به جميع فصائل المعارضة ( سياسية ومسلحة ), فإنه سيشكل نقلة نوعية كبيرة , وسيضع البلاد في مسار يفضي للاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي. أمَّا إذا لم تخرج القرارات عن نطاق السياسات الحكومية السابقة الهادفة لاحتواء المعارضة وتقسيمها وإغرائها بالمشاركة في السلطة دون إحداث تغيير حقيقي فإنها ستعني استمرار الحروب الأهلية وتفاقم الأزمة الاقتصادية والعزلة الخارجية, وسيؤدي في خاتمة المطاف للمزيد من التشرذم والتقسيم.