عبد الدافع الخطيب.. جر فرملة اليد يا ريس خالد موسى دفع الله تنبئك هذه الأريحية والتصالح مع النفس والابتسامة الحفية عن شيء يسري عميقاً في عروق الأيام يسمى مدني.. تلك الخاصية هي عبقرية المكان وشفرة الترميز لكل مكنون التسامح والسعي لقضاء حوائج الناس، والتفاني في أداء واجباته في قيادة الخدمة المدنية. قال عنه البروفيسور علي شمو: "إنه من أعظم موظفي الخدمة المدنية، وكنز لا يمكن الاستغناء عنه". وقال عنه الأستاذ عوض جادين مدير وكالة السودان للأنباء: "إنه رجل لا خلاف عليه". ويقول عنه الأستاذ معتصم فضل مدير الإذاعة: "إنه سطر اسمه كواحد من أفضل الوكلاء في السودان وأطولهم مكوثاً في المنصب". وقال عنه الأستاذ زهير الكارب أحد كبار مساعديه بالوزارة: "لا يختلف عليه اثنان، وإنه أعاد للخدمة المدنية بريقها القديم في الإخلاص والتفاني والكفاءة، وكان قلب الوزارة النابض في التوفيق بين الهيئات والقدرة على الإنجاز". ترجل قبل شهرين من كرسي الخدمة المدنية إلى دنيا المعاش الرحيب الأستاذ عبد الدافع الخطيب وكيل وزارة الإعلام وعميد وكلاء الوزارات الاتحادية، حيث تقلد المنصب لأكثر من عقد من الزمان، وهو رجل إذا قيس بموازين أهل الدنيا من الطنافس والرياش والإشكاس والمغالاة في كل شيء، لرجح به، وإذ وضع في ميزان العدل في الصفاء والكفاءة المهنية العالية والتسامح وخدمة الناس، لرجحهم جميعاً. خرج من الباب الخلفي دون أن يحس به أحد، ولكنه كان فارس الأداء في حقل الإعلام ينافح شرقاً وغرباً لتوفير الأدوات والمال الجفوف لمؤسساته. تبادل على كنفه الوزراء في إطار محاصصة الحقائب الوزارية منهم من هو مخبت وسابق بالخيرات، ومنهم من يقهر اليتيم وينهر السائل ولا يحدث بنعمة ربه، عمل معهم جميعها على اختلاف طبائعهم وسلوكهم، دون أن يشتكي منه أحد. فاعليته في الأداء وابتسامته المرحابة وكرمه الفياض وسخريته اللاذعة هي مفتاح شخصيته. عندما دقت أجراس المغادرة التاريخية توجهت الكاميرات وسكب المداد على وجهاء القيادة السياسة العليا، وذلك طبع في الإعلام أصيل. ونسيت تلك الكاميرات أن تسلط الضوء على سيرته المهنية الباذخة، وهو الذي كان يسدد ويقارب، ولا يفتأ يدق الأبواب من أجل فتات يسد به رمق الإذاعة والتلفزيون ووكالة السودان والأنباء ومؤسسات الإعلام الرسمية التي كان يرعاها بحكم مسؤوليته. قال الرواة إن وزير المالية الحالي بدر الدين محمود عندما كان يشغل منصب نائب محافظ بنك السودان، قال في اجتماع شهير مع السيد رئيس الجمهورية، وهم يناقشون الخيارات الاقتصادية ومشروع تبديل العملة بعد انفصال الجنوب وتقليب البدائل المتاحة؛ قال للرئيس بلغة شعبية مبينة: "جر فرملة اليد يا ريس".. وهو يشير إلى ترجيح خيار كان لا بد منه حسب مقتضيات ذلك الظرف التاريخي.. عندما استفهمه الرئيس أفاض في الشرح معللاً استخدامه لذلك التعبير الشعبي: "معليش يا ريس أنا من أولاد مدني". كذلك جاء عبد الدافع الخطيب يخب الخطو من مدني، يحتقب كل أدوات الإفصاح والإبانة والسخرية المالحة والأمثال الشعبية، وهو يختزن من القصص والطرائف والمفارقات ما يهزم به عبوس العمل اليومي، ويصد به إحباطات العمل العام.. لذا تضايق موظفو المراسم في اجتماعه الذي خصصت له عشر دقائق مع السيد رئيس الجمهورية ليمتد ويتجاوز الساعة، فخرج منه والضحك يتواصل بينهما بعد أداء مراسم العمل الفعلي. عندما تخرج من جامعة الخرطوم وهو يتحدث الإنجليزية والروسية، فتحت له وكالة السودان للأنباء أبوابها فتدرج في سلكها الوظيفي ومقاماتها المهنية الكثيرة. قال الأستاذ عوض جادين مشيراً إلى هذه الحقبة: "إن من آيات تميزه وكفاءته أنه وقع عليه الاختيار ضمن المتقدمين للعمل في سونا، وذلك شرف كبير في وقتها، لأنها كانت تتقاسم مع شركة شل توظيف أفضل الكفاءات الجامعية، وكانت من أكثر مؤسسات الدولية كفاءة وفاعلية ولا يلج أبواب وظائفها إلا الأكفاء". اكتشفه مبكراً الأستاذ مصطفى أمين مدير وكالة السودان للأنباء، فأوكل إليه مهمات إدارية أكبر من سنه ووظيفته، واعتمد عليه في تطوير العمل الداخلي. وتدرج في العمل حتى تم انتدابه في بداية عقد الثمانينيات مديراً لمكتب وكالة سونا في نيروبي. واستطاع من خلال عمله الإعلامي في نيروبي، أن يضع بذرة الإعلام الخارجي، وكان مكتبه يضج بالنشاط والحيوية والعمل، وحقق خلال فترة وجيزة نجاحات كبيرة للإعلام السوداني في منطقة شرق إفريقيا، واستطاع أن يؤسس مع آخرين جمعية ورابطة مراسلي وكالات الأنباء والصحف في شرق إفريقيا، وتقلد فيها مناصب عليا في مكتبها التنفيذي لدورات عدة. يقول الأستاذ معتصم فضل مدير الإذاعة عن تلك الحقبة إنه التقى به في أواخر عقد السبعين من القرن الماضي، عندما زار كينيا مشاركاً في مؤتمر عن البرامج الزراعية في الإذاعة، فوجده شاباً وسيماً قديداً يمتلئ نشاطاً وحيوية، ويقول عنه: "أسرني منذ الوهلة الأولى بثقافته العالية وشخصيته الفذة واللطف والظرف الذي لا يخفى على أحد، وعلاقاته الواسعة المتعددة مما أهّله لأن يكون رئيساً للجالية السودانية ورئيساً لاتحاد المراسلين الصحفيين في نيروبي". اكتشفه مجدداً بعد مصطفى أمين وزير الإعلام حينها، د.غازي صلاح الدين، فاستدعاه من نيروبي ليتقلد منصب الأمين العام للإعلام الخارجي. وهو منصب تعاقب عليه بعض جهابذة العمل الإعلامي في حقبة الإنقاذ الأولى، منهم الأستاذ المحبوب عبد السلام والدكتور الشنقيطي. وسرعان ما وضع عبد الدافع الخطيب بصمته الأصيلة في عمل أمانة الإعلام الخارجي، فابتدر سياسة الأبواب المفتوحة مع مراسلي الصحف والوكالات الأجنبية، ومكّن مختلف الصحف والقنوات في العالم من مقابلة المسؤولين وإجراء المقابلات والتحقيقات الصحفية المختلفة، وكانت لسياسة الأبواب المفتوحة التي طبقها في تلك الحقبة أثر فعال في تقديم الوجه الحقيقي للسودان، رغم الاتهامات الثقيلة والمجحفة. ومن ثم استعان به الدكتور غازي صلاح الدين مجدداً في منصب وكيل الوزارة. وأدار معه حينها أنجح الحملات الإعلامية في محاصرة مزاعم ضرب مصنع الشفاء من قبل الولاياتالمتحدة، واستطاعت الصحف العالمية أن تكشف خلال وقت وجيز بطلان مزاعم واشنطون بإنتاج مصنع الشفاء غازات سامة للأسلحة الكيماوية، وتم ذلك بحنكة التخطيط والحشد وتمليك الحقائق لوسائل الإعلام واستدعاء الخبراء العالميين والحصول على شهادات المختصين. وظل الأستاذ عبد الدافع الخطيب محل إجماع وتقدير من الجميع، رغم تغير الوزراء وتشاكس هيئات الإعلام المختلفة. كما تحمل العبء الإداري والبيروقراطي لدمج وفصل وزارات الإعلام والثقافة والاتصالات أكثر من مرة. تكفي الشهادة التي أدلى بها البروفيسور علي شمو، وهو من هو في حقل الإعلام، كما إنه معروف بصدق أحكامه وأصالتها في الأحداث والأشخاص وهي غير مجروحة أو مرجوحة في شأن أداء عبد الدافع الخطيب، لأنه لا يداهن ولا يجامل. يقر البروفيسور على شمو في شهادته التي دونتها منه عبر الهاتف، أنه من أعظم موظفي الخدمة المدنية في الوقت الراهن، ويشير إلى أن وزارة الإعلام والعمل العام سيخسران جهداً مقدراً وكفاءةً نادرةً لتقاعده عن العمل، لوصوله سن المعاش، مؤكداً أنه كنز لا يمكن الاستغناء عنه. وقال البروفيسور إنه استطاع أن يدير عمل الوزارة بكفاءة واقتدار، وإضافة إلى قدراته الإدارية والمهنية وقلبه الكبير وأفقه الواسع وصفاته المتعددة، إلا أنه استطاع أيضاً أن يؤلف وينسق بين عمل الهيئات الإعلامية الكبيرة، وهي مهمة شاقة وصعبة، كما تميز بحسن صلاته وعلاقاته مع نظرائه وزملائه في الوزارات المختلفة. ودعا شمو في شهادته إلى الاستفادة من خبراته وجهوده بعد سن المعاش، لأن فقده كبير وخسارته لا تعوض في أي مجال يتناسب مع كفاءته وخبراته. يقول الأستاذ معتصم فضل، مدير الإذاعة، في شهادته عن عبد الدافع الخطيب، إنه "سطّر اسمه كواحد من أفضل الوكلاء في السودان وأطولهم مكوثاً في هذا المنصب المهم. لقد عملت مع الأستاذ عبد الدافع قرابة العشر سنوات كان لي خير معين في كثير من الأمور بما يمتاز به من حنكة وحكمة ورؤية سديدة وروح وفاقية جعلته يتجاوز كل الصعوبات والإشكالات التي صادفت الوزارة. لقد سافرت مع الأستاذ الخظيب في العديد من السفريات الخارجية ولمست مدى التقدير الذى يجده من مختلف الهيئات والمؤسسات الإعلامية، كما وجدت فيه شخصاً حلو المعشر ظريفاً كريماً -أخو إخوان". تلك شهادة الأستاذ معتصم فضل. أما الأستاذ عوض جادين مدير وكالة سونا للأنباء فيقول عنه: "إنه رجل لا خلاف عليه، وعليه إجماع من كل الناس. فقد استطاع أن يجمع عمل هيئات الإعلام المختلفة وهو نقطة ارتكاز أساسية لكل عمل الوزارة والهيئات المختلفة"، وأشار إلى ميزة احترامه للناس كبيرهم وصغيرهم، والاهتمام بالبعد الإنساني في علاقته بالآخرين؛ فهو إنسان -حسب قوله- بمعنى الكلمة. ويؤكد عوض جادين أنه ظل طيلة عمله في الوزارة ركناً شديداً يأوي إليه الناس في الملمات والمنازعات، وله قدرة على معالجة الخلافات داخل الوزارة دون أن تخرج إلى الفضاء العام. وختم شهادته قائلاً إنه مهني وإنسان، ويشرف الوظيفة العامة. يجمع الذين عملوا معه على أن له طاقة لا تتبدد، وهمٌّ لا ينقضي في قضاء حوائج الناس، وهو لا يرد طارقاً أو سائلاً أو مظلوماً، ويسخر علاقاته الممتدة في كل مواقع الدولة، ليرد الابتسامة إلى شفاه أهل الحاجة. وترتبط هذه الصفات والمزايا والمناقب بأهازيج العمق الصوفي في شخصيته وتدينه، وهو قد اختار الشيخ محمد خير القادري في الفتيحاب ليكون له شيخاً وركزاً وموجهاً ومرشداً في طريق الحقيقة العرفان. وامتد عمل الخير على يديه ليجدد بناء مسجد جده الخطيب في منطقة تنقسي الجزيرة. أسوق هذا الحديث لأحيي في نفوس الناس الأمل ببقاء بعض الوجوه والرموز في حياتنا، والتي تستحق الاحتفاء بحسن سيرتها وأدائها في العمل العام، بعد أن ران على قلوب الناس فشو مرويات قائلي السوء، وبروز النماذج المهترئة وانبهام الأمل في شأن الوظيفة العامة. وليس لي في عبد الدافع مغنم أبتغيه، بعد أن ترجل عن سوح العمل العام، كما إني لست من المقربين إليه، بل لا تتعدّى مقابلتي له أصابع اليدين، ولكن شحذ همتي وقلمي هذا الإجماع والإطراء، والسيرة الباذخة لأنه من الصعوبة أن يجمع الناس على أحد في حقل العمل العام. وأرجو كما قال البروفيسور علي شمو أن تستفيد الدولة والمجتمع من خبراته وكفاءته في مواقع أخرى. وأن تخف وزارة الإعلام والمؤسسات المختلفة لتكريمه على حسن أدائه وسداد سياسته وتفرد قيادته. خلفه في الموقع وكيلاً لوزارة الإعلام الأستاذ عبد الماجد هارون وهو كفاءة مشغولة ومهمومة بتطوير أداء الإعلام، ولا شك أن بعضاً من هذا الإرث سيكون هادياً لتحقيق مزيد من الإنجازات والنجاحات في عهده. حاشية: عثمان ميرغني ودبلوماسية بسط المعازيم ما كنت أود أن أجشم نفسي عناء التعليق على حديث الأستاذ عثمان ميرغني في أداء سفارات السودان بالخارج، ودعواه لإغلاقها لفشلها في أداء مهامها. وهذا التفكير الجزافي الذي يدعو إلى إغلاق المؤسسات لتدني كفاءتها هو نزوع هدمي لا إصلاحي، ولا يتسق مع التحليل الموضوعي والحس السليم، فهو بنفس المنطق سيدعو إلى تسريح الجيش إذا انهزم في أي معركة، وتسريح الشرطة إذا تفشت الجريمة. وإن قعود المؤسسات عن أداء مهامها إذا صحت الاتهامات والمزاعم حله هو إصلاحها وليس إغلاقها. ووقع المقال في خطيئة الإبهام والإيهام، إذ وجه تهماً غليظةً دون أدلة مادية أو حيثيات موضوعية -هذا من حيث المتن. أما من حيث الموضوع؛ فإن ظاهرة تمجيد قناصل الدول الشقيقة في السودان، فهي بدعة خادعة طامعة لأنها بذات القدر تطعن في عمل المؤسسات السيادية والجهود الوطنية. ويذكرني ذلك بنكتة المصري الذي دعاه أحد أصدقائه السودانيين لحضور حفل زواج، وبعد أن شاهد أطقم الطعام توزع والعروس وهي تؤدي فاصل رقصاتها بمختلف أنواع الزي والألوان والثياب؛ سأل صديقه: (أمّال فين العروسة؟)، فلما قال له إنها التي ترقص، قال ساخراً: (إفتكرتها الرقاصة). وقال بلغة شعبية: أنتم عشان تبسطوا المعازيم لازم تجيبوا العروسة ترقص لهم. لأن بسط المعازيم في المحروسة مهمة تقوم بها راقصة محترفة وليس العروسة بنفسها. بذات منطق بسط المعازيم المصري، فإن عثمان ميرغني لم يكتفِ بدعوته الشخصية لوداع القنصل، بل تمدد حتى تكتمل لوحة بسط المعازيم إلى ترقيص العروسة وهي التجني بالباطل على مؤسسة وطنية والدعوة لتنصيبه أستاذاً على دبلوماسيتها الوطنية، بعد أن نعتها بالفشل ليعلم صديقه المحتفى به المخضرمين من دهاقنة العمل الدبلوماسي في السودان. ولو أن الأستاذ المعني الذي أراد أن يسترضيه وينصبه أستاذاً علينا ينتمي إلى السلك الدبلوماسي بواشجة مهنية أصيلة، لكان ذلك مستساغاً ومقبولاً، ولكنه أضاف إلى ذلك الجرح قدراً من الإساءة عندما عمد إلى التقليل من شأن مؤسسات الدولة السيادية والوطنية. إن مصدر التكريم والحفاوة للأشقاء والأجانب العاملين في السفارات بالخرطوم ليس قدرة هؤلاء وشطارتهم في الاختراق وتمدد العلاقات، ولكن تكمن في أريحية الشعب السوداني التي سجلت أرقاماً قياسية وتجاوزت كل سقف موضوعي في هذا المضمار، حيث استجاب قنصل سابق من إحدى الدول الشقيقة لعدد 102 دعوة وداع في السودان. وكشف ذلك المسؤول سر علاقاته مع السودانيين، وأنه يستمع إلى نشرة الثامنة مساءً والسادسة صباحاً في الإذاعة، ومن ثم يهرع إلى المقابر للمشاركة في تشييع الجنائز وشيل الفاتحة. إن ثمن الاحتفاء بوداع صديق في العمل القنصلي بالسودان، لا يحتاج من الأستاذ عثمان ميرغني أن يكيل الشتائم لوزارة الخارجية أو أن يقدح في عمل السفارات السودانية، وأن يطعن في أداء المؤسسات الوطنية، وشتان بين المغانم الشخصية والمغارم الوطنية. إذا اختلف السياق والكاتب لكان لهذا النوع من الكتابات اسم آخر ونعت مختلف وثّقه الأستاذ هيكل في كتابه "بين الصحافة والسياسة". أما ما يختص بإنجازات وزارة الخارجية وأداء السفارات، فذلك شأن آخر سنعود إليه لاحقاً.