لا أدرى ماذا أوردني مورد الإيقاع فى ذاك الصباح فقد جرت عادتي على أن أتجول بين فضائيات القنوات الإخبارية قبل الخروج من داري متجهاً إلى مقر عملي أو غيره حسبما تقتضيه ظروف وتصاريف الحياة كنت فى دبلن بإيرلندا فى مهمة رسمية بتكليف من جهة عملي وأحسب أنَّ ذلك قد كان بين نهاية يوليو وبدايات أغسطس من عام 90 كنا جماعة نلتقي صباحاً فى الحافلة التى تقلنا إلى حيث يكون برنامج عملنا. لن أنسى ذلك الصباح إذ صعدت إلى الحافلة وابتسامة عريضة تسبقني إلى زملائي فى الحافلة وشيء من دعابة ومزاح أنثره بينهم كتحية لهم فى ذلك الصباح لكن استجابتهم لم تكن بمثلما اعتدته منهم إذ بدا كل منهم كظيماً مكفهراً. جلست وأنا فى حيرة من أمري وأمرهم ولكن سرعان ما بدّد نقاش ، بدأوه بعد ذلك ، سحائب الحيرة إذ عرفت حينها أن ذلك الصباح قد أسفر عن اجتياح العراق للكويت فكانت تلك الصدمة التى أعادتني ، أو حملتني ، إلى حيث كانوا نفسياً وعلمتني ألاَّ أخرج من داري ، أو حيثما أكون ، إلا بعد معرفة ما يدور ، أو ما دار ، فى عالمنا المضطرب هذا. وأعود إلى حيث كان المبتدأ وإيقاع الصباح الذى لم يعلمني بما أصبح عليه عالمنا بعد ليلته تلك ولكنه ، أي الإيقاع ، أعلمني بما هو أهم وأسعدني سعادة لا تردُّ ولا تحد. لقد كان ذلك المهندس الجنوبي الأصل ، الوحدوي الملامح ، الإنساني المطلق والباحث فى الثقافة أطوارها وأبعادها ، خير هدية لي فى ذلك الصباح لا يدانيها كهدية إلا ذلك الرائع الفنان الأخ الصديق الأستاذ أبوعركي البخيت الذى غاب عن التلفاز دهراً ثم عاد ، هكذا ودونما ميعاد ، لتكون إطلالته من جديد عيداً وأي عيد. لعل ذلك قد كان تسجيلاً أعاد لي ، ولكل من شاهده ذكريات أيام ندية ... ويبقى السؤال متى يخرج أبوعركى للشاشة وللإذاعة ولكل الأجهزة التى ظمئت إليه وأثقلها شوقها وشوق أهلها وشوق متابعيها إلى شاعر فنان ..وموسيقي ..إنسان رائع اسمه أبوعركى البخيت. · سألتني : ما بك تبكي ؟!! غام فى عيني السؤال فازددت بكاءً لا لسؤالها ولكن لأن سفائني قد كانت ، وقتها ، قد أبحرت فى بحار من دموع ووسط أعاصير من شجن. · الأستاذ الشاعر سعدالدين إبراهيم قليل الإنتاج الشعري ، أو لعلَّ هذا ما يعرف عنه لكن قصائده المغناة مثيرة لتكثيف الإعجاب وحفىِّ التلقي ما يجعل تلك الأغنيات التى كتبها متجددة التألُّق ومن تلك حكايته عن حبيبته التى ما درى أنه بها يحكي كل واحد منا عن حبيبته. · القوس ذو وتر مشدود والسهم جدُّ مشتاق للانطلاق والكلمات تتناثر ففى صوت سماوي صبوح :- (ساوا ليكم بايدينا شاي وحالبالكم ضراع الليل وجالبالكم ضي القمره و مخبي فى جيوبا النيل تجيب النجمة وتديكم عشان كان نورها ما كفى تجيب ضواً يكفيكم) · وأعود الى سبعينيات القرن الماضي حيث كانت إشراقة الصباح شمساً ثانية تعلن عن صباح بهيج كل يوم ويزداد بكائي وأزداد نشيجاً وزفيراً وتأوهاً فقد كانت الأغنية لا تحدث ، كما قلت ، عن حبيبة سعد الدين لكنها كانت تحدث عن حبيبة كل منا. · لا أدري لماذا تتراءى لي من بين ثنايا وحنايا تلك الكلمات أمِّي ، يرحمها الله ، فأبكي وأبكي وأبكي لتجيب دموعي من سألت لماذا أبكي وتقول دموعي من بين شلالاتها وأنهارها بل لماذا لا يبكي. · بقى أن تعرفوا أن الأخ الصديق الفنان أبوعركي كان قد قام بتلحين هذه الأغنية ، أو بدأ الترنم بها ، أيام رحيل والدته يرحمها الله.