في مقالته يوم الخميس 22 مايو الجاري بعنوان "دي كليرك وليس مانديلا"، كتب الأستاذ بابكر فيصل بابكر عن الدور المثالي الذي لعبه رئيس جنوب إفريقيا فريدريك دي كليرك من أجل إنجاح تجربة الحوار الوطني والمصالحة. وهذا بالتوازي مع الدور الذي لعبه نلسون مانديلا، إن لم يكن أكثر حسما من دور الأخير كما تجرأ ورأى كاتب المقال المشار إليه. ولعلي أجد في تلك المقالة بادرة طيبة سبق وأن لاحظت خلو سجالنا الوطني من أي إشارة لها، وهي السابقة أو السوابق الدولية للوضع السوداني، ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وحقا كما يقال إنه نادرا ما يحتاج المرء لإعادة صنع الدواليب من جديد، وفي السياسة كما في الآداب لم يغادر الشعراء من متردم، ويكاد يكون كل ما نفعل وما نأتي وما ندع ما هو إلا قول معاد مكرور، ولسنا بدعا في الدول والحرب والدمار ولن نكون بدعا في الحوار والسلام وبناء الدولة. أول ما يلفت النظر في المقالة أنها امتداد لشنشنة من بعض معارضي الإنقاذ. والشنشنة لغة تعني العادة وليست ذات علاقة بالكلمات الفارغة كما يظنها كثير من الناس من كلمة "شنو" أو ما شابه. قال شاعر من قدماء العرب: بنو أميم أخي ضرجوني بالدم*** شنشنة أعرفها من أخزم ومثال لهؤلاء المعارضين حَسُنِي الظن بالدور الرئاسي الأستاذ بابكر فيصل والدكتور الواثق كمير. وهما لا يألوان جهدا في تعظيم وتضخيم الدور المحوري للرئيس البشير، وأمانيهما بأن يقوم بسودانية أصيلة بقلب الطاولة وإنهاء اللعبة التي يقودها المؤتمر الوطني (وربما بمشاركة صورية من بعض تابعيه). لست في موقع تأييد تلك النظرة من تضخيم للدور الرئاسي، كما أنا في حل من محاولة تسفيه تلك النظرة أو ذلك الدور!. لكنني ألتقط السانحة وأحاول تقليب الرأي والتفكير بصوت مسموع حول مستقبل بلادنا على ضوء التجارب الدولية والتاريخية. وللأستاذ بابكر فيصل الشكر على تلك البادرة. وفي مسح سريع للتجارب الدولية المشابهة للواقع السوداني تقفز للذهن تجارب إثيوبيا، وماليزيا، وربما إندونيسيا والتيمور شرقيها وغربيها، وكوريا الجنوبية، والهند الصينية بما في ذلك فيتنام ولاوس وكمبوديا، وربما المكسيك أيضا وبعض دول أميركا الوسطى والجنوبية. هذه أمثلة للتجارب الناجحة. وتجيء بلادنا السودان والصومال ولبنان والبلقان وكوريا الشمالية وبورما أمثلة للتجارب الفاشلة، هل أقول، متشائما، بصورة مستدامة؟؟ تعددت في العالم الحديث تجارب الانتقال من حكم العسكر إلى الحكم المدني الديمقراطي. وقد لا يصدق المرء أن دولة مثل كوريا الجنوبية كانت يوما ما، وحتى عام 1987، ترزح تحت حكم العسكر بصورة مباشرة. ودائما ما يقارن المصريون بين حالهم وكوريا الجنوبية، وما أبعد النجعة هذه الأيام؟!. بعد فترة من الفوضى أعقبت الحرب الكورية في الخمسينيات، قام الجنرال بارك تشونغ هيي بانقلاب لحكم البلاد من 1961 وحتى 1979، عندما تم اغتياله ودخلت كوريا الجنوبية في الفوضى مرة ثانية. واشتهر عهد بارك تشونغ بنمو اقتصادي باهر بلغ 10% سنويا. وبعد اغتيال بارك بعدة أشهر، في ديسمبر 1979 وقع الانقلاب الثاني بقيادة تشون دو هوان الذي قاد البلاد بدموية سافرة. بعد عدة مظاهرات في جامعة سيول الوطنية واغتيال الطالب بارك جونغ تشول، نشطت المعارضة بزعامة جماعة القساوسة الكاثوليك. وأخيرا تم تعديل الدستور الكوري عام 1987 ليسمح بقيام أول انتخابات رئاسية متعددة فاز بها قائد الجيش روه تاي وو. ووصل أول رئيس مدني للحكم بعد انتخاب كيم يونغ سام بالرئاسة في عام 1993 بعد عهد طويل من حكم العسكر. واستمر يونغ حتى 1998 اذ ينص الدستور على فترة رئاسية واحدة فقط من خمس سنوات. وفي عام 2000 تم منح كيم يونغ سام جائزة نوبل للسلام لسياساته الحكيمة، أو ما عرف بالشمس المشرقة، ولدوره في ترويض كوريا الشمالية سلميا، أو هكذا قيل. وكأن التاريخ يمارس لعباته القديمة عندما عادت بارك غيون هاي رئيسة منتخبة عام 2013، وهي أول رئيسة امرأة في تاريخ كوريا، بيد أنها بنت ذلك الجنرال بارك تشونغ هيي قائد الانقلاب العسكري الأول!! وبمناسبة الكاثوليك في كوريا فإن نسبتهم حوالي 7%، ويجيء البروتستانت بنسبة 38%، والأغلبية 43% لا دينيين، من مجموع السكان الذين يتجاوزون الأربعين مليونا. الأمر المؤكد في حالة كوريا الجنوبية أنها نمت اقتصاديا تحت الرعاية الأمريكية، بل تمثل أميركا وأوروبا أهم أسواق منتجاتها الصناعية. ومعلوم أنه ما زالت أميركا تحتفظ بوجود عسكري مكثف نتاجا للحرب الكورية 1950-1953. وما زال الوجود الأميركي العسكري يتم تحت اسم القوات الدولية بتفويض تام من الأممالمتحدة. ولعله من الطرائف أن الاتحاد السوفيتي في عهد نيكيتا خروتشوف قاطع مؤسسات الأممالمتحدة ورأى فيها مجرد ممثل للامبريالية الغربية، وتخلى في تلك الفترة حتى عن مقعده الدائم في مجلس الأمن لمدة عامين انفردت فيهما الولاياتالمتحدة بصياغة القرارات الدولية تجاه الحرب الكورية. والحال كذلك يرى كثيرون أن نمو الطبقة الوسطى، والنمو والاستقرار الاقتصادي، والتحالف الأميركي هي مجتمعة تمثل أهم مقومات انتقال كوريا الجنوبية من حكم العسكر إلى الحكم المدني، والذي توج بجائزة نوبل للسلام للرئيس الكوري. وبالتأكيد هناك الكثير من الأسرار والأدوار الرئاسية وغيرها ساهمت في ذلك الانتقال. ورغم بعد الشقة والنجعة تظل كوريا الجنوبية مثالا جديرا بالدراسة، ففي حالتها تجتمع كل سوءات وحسنات المجتمع الدولي من انقسام للدولة الواحدة، والحرب قديما، وظلال الحرب حديثا بالتسلح والتهديدات الدائمة بالعودة للخيار الصفري. ومع تبعاتها الخارجية فإن كوريا الجنوبية أجادت ولحد مذهل سياسة الالتفات للداخل حيث حققت معدلات عالمية مرتفعة في التعليم والتقانة والتصنيع والعولمة. ومقابل ذلك رضخت كوريا الجنوبية بدور خارجي مشبوه يصل حد التبعية التامة للولايات المتحدة إذ تمثل كوريا الجنوبية واحدة من الدول دائمة المشاركة في أي حرب أميركية أو أي قوات دولية تتصدى أميركا لابتعاثها. ولا ندري إن كان الكوريون الجنوبيون يضيعون وقتهم بالحديث عن الهوية والتأصيل والمشروع الحضاري، أم أن كان ثمة من يكبتهم ويقرعهم اللوم حول تعاليهم وحربهم لإخوان كوريا الشمالية أو تنكرهم لجذورهم الآسيوية أو استلابهم الحضاري أو تنكبهم طريق الاشتراكية أو محاولاتهم فرض ثقافتهم الرأسمالية على نصف وطنهم الآخر والذي اختار أو اختير له أن يبقى بعيدا دائرا في فلكه الخاص؟ ويظل طموحنا أن نتعرض في مقالات قادمة لمزيد من التجارب التنموية، وتجارب الانفصال، وتجارب الانتقال للحكم الديمقراطي في أنحاء أخرى من العالم. وكما أسلفنا أمامنا تجارب إثيوبيا، وماليزيا، وإندونيسيا والتيمور شرقيها وغربيها، وكوريا الجنوبية، والهند الصينية بما في ذلك فيتنام ولاوس وكمبوديا، وربما المكسيك أيضا وبعض دول أميركا الوسطى والجنوبية. والكرة في ملعب الأستاذ بابكر فيصل بابكر وغيره من الكتاب والمنظرين لاستلهام خريطة طريق تصلح والواقع السوداني المتدهور.