أعادني إلى مقابلة التوظيف بعد لحظات شرودٍ صوتُ الموظف المرشح وهو يقول ".. 1991"، فاستعدت انتباهي مزمعاً التهيُّؤ لدوري في طرح السؤال التالي لأُفاجأ بتذكُّر أن الذي يجلس أمامنا يافع لم يتجاوز منتصف العقد الثالث من العمر. وعهدي بالعام 1991 أن يرد في مقام من قبيل السنة التي أكمل فيها زميل من متوسطي العمر عامه العاشر في العمل، أو على أهون تقدير أن تكون سنة التخرج من الجامعة لأحد الزملاء الموصوفين بالشباب الواعد، لكنْ أن تكون 1991 تاريخ ميلاد من سيصبح بعد قليل وبشكل رسمي زميلاً في العمل فذلك مما يستحق أن يُوصف بالعلامة الفارقة (مايلْستون) في إدراك أن الواحد أصبح عجوزاً بحق. وكنت لاحظت قبلها أنني أحظى بتقدير لا بأس به من بعض الزملاء على وجه الخصوص، فأرجعت ذلك إلى مكانتي التي ظننتها مرموقة بينهم بسبب إنجاز عظيم أو مواهب لافتة حتى أيقظني رفيق مولع بالتطوُّع لحملي على أن أعيش الواقع نزولاً من أحلام الشباب التي أجيد التحليق في سمائها. لفتني رفيقي ذاك إلى أن كل من شملتهم القائمة من الزملاء الذين يُخجلون تواضعي بتقديرهم الجمّ يصغرني أكبرُهم سناً بعشر أعوام على الأقل، فلم يكن عسيراً أن أدرك بعدها أن ذلك التوقير من نِعم الكِبَر عليّ بعيداً عن أية دواعي اعتبارية رنّانة أخرى. لن أنكر أن للتقدير الذي يمنحه الكِبَر لذة خاصة، ولكن اللذة الأجمل تلك التي يمنحها الإنجاز محضاً بمنأى من السنوات المنصرمة من العمر. ولا مراء أن إنجازاً رفيعاً مقروناً بالشباب هو أقصى ما يتمنى المرء بلوغه من دواعي التقدير قبل أن يدركه لقب عجوز. ولا تزال علامات الكِبَر مما تتوالى طرائفه مهما تهيّأ العجوز أنه أدرك الغاية في حسابه، فإلى جانب الأرقام الموحية من التاريخ الميلادي والتقدير الذي يناله الواحد رغماً عنه مما أصابني مؤخراً، فاجأني يوسف (وهو زميل عزيز أحب الإنصات إلى خواطره مع الكبر) بأنه لم يعد يخرج من البيت عقب العودة من العمل كما كان يفعل فيما مضى. كان طبيعياً أن أتخيّل أن الرجل بات يعاني مشاكل صحية، أسرعُها إلى الخاطر وروداً اشتدادُ آلام الركبة لرجل مثله كان مولعاً بقضاء الأمسيات في رياضة الهرولة بعد أن يذرع المسافة الطويلة بين البيت ومكان العمل في النهار جيئة وذهاباً على دراجة هوائية. وقبل أن أكمل حكاية يوسف أعود إلى الوراء (قليلاً؟) مع أيام الطفولة الباكرة وقد باغتنا أخي الصغير مرة متذمِراً من صديقه عليّ الذي أسرع إلى البيت قبله وأوصد عليه الباب، فكان التعبير الطفولي الطريف عن ذلك: "عليّ قفلني في الشارع". هكذا كان الشارع الفسيح محبساً لصغير يجد الأمان والأنس إلى جوار صديقه ولو بين جدران غرفة ضيقة. بالعودة إلى يوسف فإن ما وراء قعوده عن الخروج مساءً كان سبباً من قبيل أنه لم يعد يجد طمأنينته في الشوارع التي اختفى منها من كان يأنس إليهم من رفاق العمر حتى أولئك الذين لم يكن يعرف لهم اسماً أو عنواناً ولا يجمعه بهم سوى المشترك مما يقع عليه بيسر من علامات الكبر. كان مَن يشاطر يوسف ما بين جدران الغرفة الضيقة يصغره بجيل كامل، إذا صحّ أن عشرة سنوات كافية للفصل بين الأجيال. والذي يبدو صالحاً من القصة في مقام تقصي العِبَر من الكِبَر أن مساحة شديدة التواضع يقتسمها معك – بوصفك عجوزاً - رجل قريب إلى جيلك أبعث للأنس والراحة من شوارع تعجّ بالشباب المستفزين بالحيوية واللامبالاة. وإذا كان تقدير الكبار متاحاً في أماكن العمل وحيثما اتفقت علاقة في أية مساحة محصورة بين الناس متفاوتي الأعمار، فإن الشوارع الفسيحة والأماكن المنبسطة تبدو الأكثر انتهاكاً لمشاعر العجايز حتى إذا تأدّب فيها الأصغر سِناً بإعطاء الأولوية للكبار تمهيداً للعدو بعدها بسرعة مضاعفة تعويضاً للزمن المستقطع للاحترام.