وثائق امريكية عن ثورة اكتوبر (13): إخراج الوزراء الشيوعيين الخليفة يستقيل، ثم يشكل وزارة بدون شيوعيين انقلب الميزان، وانتصر التقليديون على العلمانيين اشتباكات في شوارع الخرطوم، وإعلان الطوارئ ------------------------ واشنطن: محمد علي صالح هذه هي الحلقة رقم 13 من هذا الجزء الاخير من هذه الوثائق الامريكية عن التطورات السياسية في السودان، وهي كالآتي: الديمقراطية الاولى (25 حلقة): رئيس الوزراء اسماعيل الازهري (1954-1956). الديمقراطية الاولى (22 حلقة): رئيس الوزراء عبد الله خليل (1956-1958). النظام العسكرى الاول (19 حلقة): الفريق ابراهيم عبود (1958-1964). النظام العسكري الثاني (38 حلقة): المشير جعفر نميري (1969-1975، آخر سنة كشفت وثائقها). هذه وثائق الديمقراطية الثانية، بداية بثورة اكتوبر (1964-1969). وستكون 20 حلقة تقريبا: ---------------------------- (تعليق: لا توجد وثائق منظمة أو منتظمة عن هذه الفترة. هذه معلومات متفرقة يبدو أن دبلوماسيين في السفارة، أو سودانيين يتعاونون معهم، جمعوها). --------------------------- 2-2-1965 خلف الله بابكر: "... تطورت مشكلة تصريحات وزير الاعلام، خلف الله بابكر، الذي ذهب الى اذاعة امدرمان، الاذاعة الوحيدة في السودان والمملوكة للحكومة، واذاع بيانا هاجم الأحزاب التقليدية. واستعمل عبارات مثل "رجعية" و "تقليدية" و "فاسدة". كان ذلك جزءا من حملة يقوم بها شيوعيون ويساريون في مواجهة هذه الأحزاب التي تتمتع باغلبية واضحة وسط بقايا طوائف الشعب السوداني. أن ليس وسط المتعلمين والصفوة، وسط عامة الناس. وان ليس في المدن، في الاقاليم الممتدة الى ما لا نهاية. امس، اصدر سر الختم الخليفة، رئيس الوزراء، بيانا اعتذر فيه عن ما فعل بابكر. وذلك بعد اجتماع عاصف لمجلس الوزراء، استمر ست ساعات. وقال الخليفة إن بابكر "قصد توضيح مواضيع"، و "لم يقصد الاساءة الى اي شخص، أو حزب، أو جهة." وحصلنا على معلومات بأن بابكر كان اجتمع مع وزراء شيوعيين ويساريين، وانهم اتفقوا على ما فعل. وان ذلك كان جزءا من محاولات أن تكون جبهة الهيئات، التي قادت ثورة اكتوبر، هي الحزب السياسي الوحيد، والحاكم، على طريقة الاتحاد الاشتراكي في مصر، وحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا. وحسب معلوماتنا، يسير هذا المخطط على ضوء نظريات شيوعية، وتوجيهات من موسكو، وعواصم شيوعية في شرق اوربا. وان الهدف هو تأسيس لجنة مركزية، ومكتب سياسي، على طريقة الأحزاب الشيوعية. اول امس، قبل اعتذار رئيس الوزراء، اصدرت الجبهة القومية التي تجمع الأحزاب التقليدية (الامة، الاتحادي، الاسلاميين) بيانات ادانة، وتحذير. واول من امس، اجتمع قادة هذه الأحزاب الثلاثة (الازهري، الصادق المهدي، حسن الترابي) مع التيجاني الماحي، الاختصاصي النفسي الذي صار عضوا في مجلس السيادة الذي يحكم السودان حتى الانتخابات. وذلك بصفته رئيسا دوريا لمجلس السيادة. وبعد الاجتماع، اصدروا تصريحات طلبت من رئيس الوزراء اعلان التزام واضح بإجراء الانتخابات في وقتها الذي حدد سابقا. وطلب بعضهم اقالة الحكومة. واقتصر آخرون على المطالبة بإقالة خلف الله بابكر، وزير الاعلام، والذي خلق هذه المشكلة، وكان القادة السودانيين يحتاجون الى مشكلة جديدة... ونشرت صحيفة حزب الامة معلومات سلبية، ولاذعة، عن خلف الله بابكر، وسمته "الشاعر النوفمبري"، اشارة الى انه كتب قصائد مدحت النظام العسكري السابق (اشارة الى ثورة 17 نوفمبر سنة 1958)... نحن لسنا متأكدين من حقيقة عقيدة بابكر السياسية. هل هو ختمي؟ هل هو ناصرى؟ لكن، يمكن أن يكون هذا وذاك. وذلك لان حزب الختمية، حزب الشعب الديمقراطي، متناقض في تحديد هويته الحقيقية. انه حزب تقليدي، لا يختلف عن الأحزاب التقليدية الاخري. ولانه يعتمد على قاعدة دينية، هي طائفة الختمية التي يقودها زعيم ديني صوفي هو السيد على الميرغني. يمكن تفسير تحالف الختمية مع المصريين بانه بسبب العداء التاريخي بين المصريين وحزب الامة، حزب انصار المهدي التاريخي. ويمكن القول إن المصريين كانوا وراء تأسيس الحزب الختمي: اولا: لاضعاف الحزب الاتحادي، بقيادة اسماعيل الازهري، اول رئيس وزراء، والذي حول السودان من السير في ركاب المصريين الى الاستقلال التام. ثانيا: لمواجهة حزب المهديين... وهكذا، تمرد السودانيون على نظام عسكري، ويريدون تأسيس نظام ديمقراطي، لكن، صار واضحا أن هذا ليس سهلا: اولا: صار واضحا أن تدخلات دول اجنبية، خاصة شيوعية ويسارية، ترى أن هناك تفسيرات لكلمة "ديمقراطية" غير التفسير الذي نتفق عليه نحن في الغرب. ثانيا: صار واضحا أن هذه الجهات تريد خداع السودانيين باستعمال هذه الكلمة البراقة. لكن، لتحقيق اهداف تناقضها تماما. ثالثا: صار واضحا أن السودانيين، مثل غيرهم من شعوب العالم الثالث، يريدون التطور السياسي مع قلة الوعي السياسي. ويريدون الحرية مع قلة جذور تاريخية للحرية... من المفارقات أن الملكة اليزابيث، ملكة بريطانيا، تزور السودان في الوقت الحاضر. يمكن أن تكون زيارة لتشجيع السودانيين لانتهاج الطريق الديمقراطي الغربي. ويمكن أن تكون زيارة مجاملة، لان البريطانيين لم يحرصوا على اعادة الديمقراطية عندما قضى عليها نظام الفريق عبود العسكري..." -------------------------- 13-2-1965 اخراج وزراء: "... صار مؤكدا أن الاختلاف بين القادة التقليديين والقادة اليساريين في السودان سيؤدي الى سقوط الوزارة التي كانت رمز اتفاقهم منذ أن حققوا الثورة التي انهت النظام العسكري بقيادة الفريق عبود. وصار واضحا أن كفة التقليديين رجحت، بل رجحت كثيرا... وحسب معلوماتنا، نتوقع خروج، أو اخراج، هؤلاء الوزراء: -- الشيوعيون: المحامي أحمد سليمان. النقابي العمالي الشفيع أحمد الشيخ. النقابي الزراعي الامين محمد الامين. -- شبه الشيوعيين: الدبلوماسي عبد الكريم ميرغني. زعيم المحامين عابدين اسماعيل. -- الموالون للمصريين: المتذبذب خلف الله بابكر. الضعيف النفوذ رحمة الله عبد الله. ومثله عبد الرحمن العاقب... وهكذا، يكون العدد ثمانية يساريين، مقابل ثلاثة تقليديين، وثلاثة جنوبيين يميلون، عادة، نحو التقليديين. يقف رئيس الوزراء الخليفة في الوسط. لكنه يميل نحو التقليديين. ورغم انه تعلم في مدارس بناها البريطانيون في السودان، ورغم انه درس في بريطانيا، يبدو أن خلفيته التقليدية، وحقيقة أن والده كان من رجال الطرق الصوفية، تؤثر عليه. باطنا، أن ليس علنا... اذا انتصر التقليدون داخل مجلس الوزراء، ونتوقع أن ينتصروا، يكونوا، حقيقة، قلبوا ميزان القوى الحاكمة في الخرطوم. لكنهم، كما ذكرنا مرات كثيرة، يتمتعون في مجتمع مسلم كالمجتمع السوداني بتأييد اغلبية السودانيين الذين يصعب فصل انتماءاتهم السياسية عن انتماءاتهم الدينية. هل انقلب ميزان القوة؟ أو لم ينقلب؟ هل دائما تتناقض الصفوة مع الرعاع؟ أو يمكن التوفيق بينهما؟ ومن الذي يتنازل؟ الصفوة؟ أو الرعاع؟ بل كيف يتفاوضون وكل جانب في عالم خاص به؟.... هذه اسئلة لا تهم السودانيين فقط، ولكن، ايضا، بقية شعوب العالم الثالث. وايضا، تهمنا نحن في الغرب..." -------------------- 9-2-1965 حرب اهلية؟: "... لاول مرة، تعلن حكومة الثورة المدنية هذه حالة الطوارئ، والتي لم يكن النظام العسكري اعلنها. وصارت شوارع الخرطوم تمتلئ بمظاهرات واشتباكات بين الجانبين: التقليديين، متمثلين في الأحزاب، وخاصة انصار حزب الامة. واليساريين، متمثلون في الحزب الشيوعي، والنقابات، وكثير من المنظمات المهنية. يبدو أن السودانيين مقدمون على ايام صعبة. لا يمكن القول إن حربا اهلية أو قبلية ستنشب. رغم أن الحرب الاهلية مستمرة في جنوب السودان، وهي خليط من عوامل سياسية، ودينية، وعرقية، وثقافية. لكن، ليست الاختلافات وسط القادة الشماليين في الخرطوم قبلية، ولا عرقية. تبدو سياسية وعقدية: "تراديشناليزم" (تقليدية) في مواجهة "سيكيولاريزم" (علمانية). لا يمكن وصفها بانها بين اسلاميين وعلمانيين. أو بين الذين يميلون نحو الغرب والذين يعادون الغرب. أو بين الصفوة والرعاع. ربما يمكن وصفها بأنها بين نوعين من الصفوة: النوع الاول: "رياليستيك اليت" (صفوة الامر الواقع) التي تتحالف مع الأحزاب التقليدية، لانه لا توجد قواعد سياسية حديثة في السودان. ولانه ليس سهلا فصل الدين عن الدولة في بلد اسلامي تقليدي مثل السودان. النوع الثاني: "ايديل اليت" (صفوة مثاليين) التي تريد العلمانية وفصل الدين عن السياسة. لتوضيح هذه النقطة، ربما تمكن ملاحظة الآتي: اولا: يوجد قادة تعلموا في مدارس بناها البريطانيون (كلية غردون، جامعة الخرطوم) في قيادة الأحزاب التقليدية. (مثلا: مبارك زروق، قطب الوطني الاتحادي، ومحمد أحمد محجوب، قطب حزب الامة). ثانيا: من اكثر القادة المسلمين محافظة، زعيم الاسلاميين د. حسن الترابي، نال ماجستر في بريطانيا، ودكتواره في فرنسا. في الجانب الآخر، من اكثر القادة الشيوعيين شيوعية د. عز الدين على عامر الذي درس في بريطانيا، ويقضى وقتا كبيرا فيها..." ------------------------- 18-2-1965 استقالة الوزارة: "... رغم توقع اخراج الوزراء الشيوعيين وحلفائهم من الوزارة، ورغم الوصول الى قرار حول ذلك، ورغم اذاعة الخبر خارج السودان، لم تعلن اذاعة امدرمان الخبر الا قبيل منتصف الليل. عندما ذهب الى هناك رئيس الوزراء الخليفة. واعلن انه استقال بسبب "الفشل فى علاج مشاكل داخل الوزارة." وان مجلس السيادة كلفه ليشكل "حكومة جديدة بأسرع وقت ممكن... " وصار واضحا أن ميزان القوى وسط قادة السودان انقلب رأسا على عقب، بين يوم وليلة... " --------------------- 21-2-1965 انقلاب عسكري؟: "... قضى السودانيون ثلاثة ايام بدون وزارة، وسط توترات، ومظاهرات، واشتباكات. وظهرت في الخرطوم اشاعات بأن القوات المسلحة ستعود الى الحكم. من المفارقات أن الحكومة التي طردت العسكريين من الحكم، عادت اليهم لاستتباب الامن. لكن، وضع القوات المسلحة ليس مريحا: اولا: تميل اغلبية الضباط، وربما كل الجنود، نحو الآراء التقليدية الاسلامية. ولهذا، لا نتوقع أن يقودوا انقلابا يساريا. ربما لانهم واقعيون، ويعرفون أن مواجهة الأحزاب، خاصة الانصار المهديين، ستغرق البلاد في حرب اهلية حقيقية. ثانيا: حسب معلومات ارسلناها لكم في الماضي، تعمل الاستخبارات المصرية داخل القوات السودانية المسلحة. ليس بالضرورة للتخطيط لانقلاب عسكري، ولكن، لضمان وجود كوادر، اذا جاءت حكومة معادية لمصر. ثالثا: حسب سجل الاستخبارات المصرية في دول عربية، مثل سوريا والعراق، اذا لم تكن الأحزاب التقليدية في السودان قوية جدا، كانوا سيريدون انقلابا عسكريا مواليا لهم في السودان. رابعا: ظهرت اشاعات عن وصول قوات اجنبية الى السودان. لكنها لم تؤكد. ويمكن ربطها بحماس الحزب الشيوعي الروسي، والاحزاب الشيوعية في شرق اوربا، والقومييين العرب، والبعثيين، والناصريين، للثورة "اليسارية" في السودان. والاستعداد للدفاع عنها اذا هددتها "الرجعية"... يمكننا أن نضع في الاعتبار المواجهة الحالية في اندونيسيا بين الوطنيين في جانب (بقيادة أحمد سوكارنو، الذي قاد البلاد نحو الاستقلال)، والشيوعيين في جانب، والعسكريين في الوسط... ستكون هذه مغامرة كبيرة. خاصة بسبب عدم وجود نفوذ شيوعي كبير داخل القوات السودانية المسلحة. وخاصة بسبب طبيعة الشعب السوداني المعادية للشيوعية و "الالحاد"... (تعليق: في نفس عام 1965، حاول الشيوعيون في اندونيسيا السيطرة على البلاد بانقلاب عسكري. لكن، تحالف الوطنيون مع العسكريين، ودحروا الشيوعيين. وخلال سنة دموية، قتل تقريبا نصف مليون شيوعي، وغير شيوعي. ولان الجنرال سوهارتو قاد الحملة ضد الشيوعيين، ناور سوكارنو، ثم خدعه، ثم حل محله). ----------------------------- 24-2-1965 الوزارة الجديدة: -- رئيس الوزراء ووزير الدفاع: سر الختم الخليفة -- من حزب الامة: محمد أحمد محجوب: الخارجية. أحمد المهدي: الري. محمد ابراهيم خليل: الحكومات المحلية. -- من الحزب الاتحادي: مبارك زروق: المالية. صالح محمود اسماعيل: الاعلام. محمد جبارة العوض: الثروة المعدنية. -- من الاخوان المسلمين: الرشيد الطاهر بكر: الثروة الحيوانية. -- من الجنوبيين: كلمنت امبورو: الداخلية. ازبوني منديري: المواصلات. بونا ملوال: الاشغال. -- من حزب الشعب: (ثلاثة مقاعد شاغرة). -- من الحزب الشيوعي: (مقعد واحد شاغر)... رأينا: اولا: صار واضحا أن الحزبين التقليديين الرئيسيين كسبا الجولة. ثانيا: خرج كل الوزراء الشيوعيين واليساريين. ثالثا: لا نتوقع أن يشترك الشيوعيون وحزب الشعب في هذه الوزارة. رابعا: لانها الوزارة التي تحكم البلاد، تقدر على السير نحو اجراء الانتخابات، وتأكيد انتصارها من داخل البرلمان... " ==================== الاسبوع القادم: نتائج الانتخابات