يقول لي ناشر عزيز عندما أعرض عليه مشاريع كتبي المقبلة وأنا أتوهّم أنني أغريه بالعرض: "بَدْنا رواية"، وتخاطبني ناشرة مقدَّرة في مزاح لا يخلو من جد عندما أعيد عليها الحديث عن بُعد ما بيني وبين الكتابة الروائية من ألفة وتقدير: "حسناً.. أكتب رواية ضد الرواية"، ولا يزال الناقد المصري المعروف جابر عصفور يردِّد أن هذا هو زمن الرواية، بل إن مقولته التي أطلقها قبل سنوات طويلة قد دوّت حتى إن صداها بات يتردّد بصورة شبه تلقائية دون الحاجة إلى أن يعيد الرجل نفسه بتكرار الحديث عن هذا الزمان ووصفه استناداً إلى مرجعية أدبية مقابل الأوصاف المنهمرة على زماننا من خلفيات تكنولوجية وأخرى مطلقة على شاكلة: زمن الإنترنت وعصر السرعة. ولولا أن زمن الرواية تقال نكاية في سواها من الأجناس الأدبية لكنت أول المهلِّلين لوصف زماننا هذا رجوعاً إلى الأدب على اعتبار ذلك أعلى درجات التكريم لحرفة نالها من التهميش حديثاً فوق ما تستحق وإن تكن طاقتها على الإصرار لا تزال تدعو إلى الإعجاب. ولكن المقصود بالإغاظة كان الشعر ابتداءً وليس الانترنت أو السرعة، وبتصاعد الأصوات المردّدة للمقولة تبيَّن أن الشعر ليس المقصود الوحيد وإن يكن ديوان العرب هو بالفعل أول المستهدَفين، فقائمة الأجناس الأدبية التي لمزتها المقولة شملت القصة القصيرة حتى جاء وقت أصبحت فيه المواجهة على هذا الصعيد بين الرواية والقصة القصيرة وليست بين الرواية والشعر، بافتراض أن الأخير قد سُدِّدت إليه الضربة القاضية فخرّ صريعاً بينما لا تزال القصة عموماً – والقصيرة تحديداً – منافساً محتملاً ليس من قِبل فصيلة أخرى من المهتمين بالأدب وإنما من جانب نفس زملاء الصنعة من عشاق السرد من الكُتاب الذين بات أغلبهم يفضِّل أن يرفل في اللقب المهيب "روائي" على أن تتقدَّم اسمه صفة قاصّ. ولأن الانتقال من القصة إلى الرواية لا يتطلَّب سوى حمولة إضافية (يسيرة؟) من الزاد وتدريب (بسيط؟)على النفَس الأطول لم تكن رحلة الانتقال من القصة إلى الرواية عسيرة على معظم من انتوى خوضها من أدباء فنون السرد، ولكن الأغرب أن المغامرة كانت جاذبة حتى لبعض الشعراء من سدنة ديوان العرب القديم على بُعد ما بين ديوانهم العتيق وبين الفن الأدبي الجديد الذي استعار ثيابه من الغرب وليس من النثر العربي على اختلاف أشكاله بتوالي القرون العربية من الجاهلية وحتى العصر الحديث. إذا كان الأدب غواية يكاد لا يسلم من اجتراحها أحد في أيٍّ من الأشكال الفنية على سبيل التجريب في البدايات، فإن التنقل بين الأجناس الأدبية أقرب في الغالب إلى الاستعراض منه إلى الاستجابة البريئة لغواية كتابة من أي قبيل، ولا حرج سواءٌ في الاستجابة لغواية الأدب في طور المراهقة الجسدية والفكرية أو في التنقل بين الأجناس الأدبية بغية استعراض العضلات الفنية إذا صحّ أن تلك العضلات مؤهلة بالفعل للنهوض بحمولة أكثر من جنس أدبي، أما الاستجابة لغواية التنقُّل مجرّداً بهدف الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من الألقاب الأدبية ففيه من الحرج ما لا يجب أن يقارَن مع لهفة أدبية بريئة تتحسّس من الخطوات على الطريق الوعر الطويل ما قد يُكتب له النجاح.. أو يجانبه التوفيق فيعود من حيث أتى بلا ضجيج. والحال كتلك، لا شك أن من يصدع بالقول "تبّاً للرواية" ليس فقط كاتباً مثلي لا تزال الرواية عاجزة عن إغوائه بالكتابة أو المتابعة الجادّة، وإنما إلى ذلك طوائف أخرى من محترفي الأدب والمهتمين به اطِّلاعاً وترصُّداً للأخبار. الشعراء ومحبّو الشعر في طليعة الحانقين على الرواية إلا من رحم الله منهم فكان - بحسب التعبير المصري - صاحب بالين (أو أكثر)، وبتعبير أدق فإن الشعراء وجمهور الشعر هم الخاسر الأكبر في زمن الرواية المزعوم هذا، لا لشيء سوى أن كل ما مضى من زمن العرب الأدبي كان خالصاً لفنهم وحده بالسيادة إلى ما يقترب أحياناً من الانفراد. ولكن القصة القصيرة هي خاسر أكبر آخر، وأرجو أن يجوز التعبير، على اعتبار أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من الاستحواذ على الوصف الأدبي لهذا الزمان ثم أُقصِيت بضربة موجعة وباعثة على الغيظ الشديد في اللحظات الأخيرة التي قرّر فيها القرّاء أن ينحازوا إلى النفَس الطويل في عصر السرعة. بهذا، إذا شاء كُتاب الرواية وعشاقها أن يهنؤوا بزمانهم هذا فليفعلوا، ولكن دون أن يحاولوا إقناعنا بحتمية خيارهم رجوعاً إلى تنظير ناقد حصيف أو منطق - كما رأينا للتو - مقلوب. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته