الأستاذ/ الطاهر ساتي لايبدو أن لقرائكم فكاكاً من إطلالاتي عليهم عبر "السوداني"، هذه المرة لم آتيكم متحفظاً كما وصفتموني في المرة الأولى، بل مؤيداً ومدعماً، إذ أنني أراني بالنسبة لما جاء في عمودكم في عدد السبت 21 يناير من صحيفة "السوداني" ناظراً للأمور عيناً لعين معكم كما يقول الفرنجة eye to eye، فليس للصحفيين والمحامين ما يفعلونه في لجنة التحقيق التي كونها السيد وزير الصحة. التحقيق هو عملية تقصي لحقائق فى مسائل إما تهم الرأي العام، أو تهم جهة بعينها، ليساعدها في اتخاذ قرار في شأن ما يظهر من حقائق. وفق هذا المفهوم فإن السلطة التشريعية غالباً ما تلجأ لتكوين لجان تحقيق في المسائل ذات الصبغة العامة، يطلق عليها لجان التحقيق البرلمانية، وذلك بغرض مساعدتها في اتخاذ قرار وفق سلطاتها فى مراقبة التنفيذيين، أو لإصدار تشريع معين. والسلطة التنفيذية أيضاً تقوم بذلك وفق قانون لجان التحقيق لعام 1954، لتعينها على إصدار القرارات المناسبة، وهذه اللجان من حيث الغرض وتأسيس المسئولية، تختلف تماما عن لجان التحقيق التي تشكل وفق قانون محاسبة العاملين، والتي تهدف للتوصل لما إذا كان المستخدم الخاضع للتحقيق قد خالف شروط أو مقتضيات الوظيفة، والتحقيق الذي تقوم به النيابة العمومية أو يقام تحت إشرافها، توطئة لتحديد ما إذا كانت هنالك بينة مبدئية حول ارتكاب جريمة بعينها. ولا يبدو أن التحقيق الذي كونه السيد وزير الصحة ممكن تصنيفه في أي من تلك التحقيقات، وذلك لأنه يتصل بمعرفة سبب وفاة ثلاثة مرضى بمستشفى الخرطوم بحري. السيد وزير الصحة رجل من علماء الطب في هذه البلاد، لم يقف بعلمه عند حد معالجة المرضى، بل تجاوزها لتعليم أجيال من الأطباء علم النطاسة، ودروبها المختلفة، وبالتالي فهو يعلم أن تحديد سبب وفاة شخص هي مسألة مهمة يضع لها القانون وزناً خاصاً، ويراقبها بعين فاحصة، عن طريق الأطباء التابعين للوزير. فالموت هو مصير كل إنسان حي، فكل نفس ذائقة الموت عندما ينقضي أجلها. ولكن ذلك قد يكون إما بفعل فاعل، أو لظروف طبيعية لا دخل فيها لإنسان. وتدخل الإنسان فى وفاة شخص آخر، قد يكون بقصد إحداث الوفاة، أو بإهمال عندما يقوم بفعل بغير تبصر يؤدي لوفاة آخر، أو عندما يمتنع عن القيام بفعل يتوجب عليه القيام به مما يؤدى إلى الوفاة. كل هذه الحالات التي تكون وفاة شخص ناجمة عن تدخل إيجابي أو سلبي من إنسان حتى وإن كان ذلك الإنسان هو المتوفى نفسه، هى مسألة التوصل فيها لقرار يهم القانون بدرجة لا يمكن معه تركها لغير المختصين قانوناً بذلك. لذلك فقد نصت المادة 48 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه إذا كانت الجريمة متعلقة بالموت أو الأذى الجسيم، على الضابط المسئول أن يتخذ ما يلزم، لاستدعاء الطبيب المختص لفحص الجثة، أو المصاب، أو نقل الجثة، أو المصاب، إلى أقرب مستشفى إذا استدعى الأمر ذلك، وأن يخطر أولياء القتيل، أو المصاب، ويدون أي أقوال لهم في محضر التحري. (2) لا يجوز دفن الجثة التي يتعلق بها التحري دون تصريح من وكيل النيابة ما لم تدع الضرورة القصوى لذلك. التحقيق فى أسباب وفاة شخص لاتقوم به غير النيابة العمومية، والقرار في مسئولية أي شخص عن تلك الوفاة لا يقررها إلا القضاء. وبعض القوانين لأهمية المسألة تقصر التحقيق فيها على القضاء، فالقانون الإنجليزي عند وفاة أي شخص بشكل فجائي، أو عن طريق العنف، أو في ظروف مريبة، أو عند وفاة أي شخص حدثت وفاته في السجن، يوجب أن يتم التحقيق حولها بواسطة قاضي CORONER فى تحقيق قضائي INQUEST، ليقرر في نهايته القاضي سبب الوفاة. مجمل القول هو أن الوفاة في الظروف الطبيعية يحدد سببها الطبيب، وفي غير الظروف الطبيعية فإن القرار فى المسألة يكون مركباً، ففي حين يقرر الطبيب المختص عندنا، أو القضاء لدى غيرنا، السبب الذي أودى بحياة الشخص من الناحية المادية البحتة، أي تعرضه لضربة بآلة حادة، أو رصاصة، أو نقص في الأكسجين مثلاً، فإن النيابة العمومية، هي التي تقرر بصفة مبدئية مسئولية أي شخص عن ذلك. وهذا هو ما يجعل قرار السيد وزير الصحة بتفويض اللجنة بالتوصل لقرار حول مسئولية أي شخص عن وفاة أي شخص، هو تفويض ممن لا يملك، لأن وزير الصحة نفسه لا يستطيع أن يحدد مسئولية أي شخص عن وفاة أي شخص آخر، وإنما يحددها القضاء وفق إجراءات محددة. بعد أن يحدد القضاء ذلك يجوز للجهات الإدارية، التحقيق في الظروف والملابسات التى أدت لذلك، من حيث مسئولية جهة معينة، عن توفير ظروف تمنع إتاحة الفرص لحدوث ذلك. في هذا الموضوع، ليس هنالك ما يمنع وزير الصحة، من أن يقوم بتكوين لجنة تحقيق لتقصي الحقائق، حول توفر الظروف اللازمة لإجراء عمليات آمنة، دون تحديد لمسئولية شخص عن وفاة شخص. وهذا يقودنا لتشكيل اللجنة. من حيث تشكيل اللجنة فما زلت أرى ما يراه الأستاذ ساتي، من حيث أن التشكيل يجب أولا أن يقتصر على من لهم دراية بالجوانب الفنية المتصلة بالموضوع. ترى صديقتنا الأستاذة هويدا سر الختم في عمودها المقروء "أجنده جريئة"، أن التقصى من أوجب واجبات الصحفي، وليس هنالك ما يمنع وجود الصحفي في لجان التحقيق، ولكن التقصى خشم بيوت ياصديقتي هويدا، فالصحفي هو نافخ صافرة whistle blower فحسب، أي أنه ينبه لخطر، ولكنه لا يصل لنتائج، ولا لتوصيات، فواجبه ينتهي بإيقاظ الرأي العام وتنبيهه لمواطن الخطر. الصحفي يثير قضية الوفاة المتكررة في المستشفى في نفس الظروف، والطبيب يحدد سببها، والنيابة تحدد المسئول عنها. ولكن ما ذهب إليه الأستاذ ساتي يحمل بعداً أكثر من ذلك، وهو احتمال استخدام لجان التحقيق بما تتيحه من مقابل مادي، للتقريب بين السلطة والصحفي، اتقاءً لنقد الأخير، وإبعاداً له عن الأرضية الحيادية التي يجب أن يكون واقفا عليها. بالنسبة للمحامين فإنني أفضل أن ينأوا بأنفسهم عن مراكز اتخاذ القرار، في الشأن العام، حتى لا يخضعون لتأثيرات غير مستحبة، نتيجة لوضعهم في سوق العمل الخاص، ولكن هذه مسألة يقدرها كل شخص لنفسه، وإن كان البعد عن موطئ الشبهات مطلوب دائماً. ولكم شكري