سرية العمليات المصرفية يجب أن تعتبر من أساسيات العمل المصرفي في جميع أنحاء العالم ، و لهذا نقول بأن هناك حالة من الخصوصية تتوفر بين البنك وعميله لأن الأخير يعطي البنك أسراره و تفاصيل حساباته و تعاملاته المالية بل أن البنك في العديد من الأوقات يلعب دور المستشار للعميل ويقدم له النصح وهذا الوضع الخاص يتطلب توفر الثقة المتبادلة بين الطرفين و بالتالي الحرص على السرية لأن إفشاء الأسرار بالنسبة للعمل التجاري يفسده بل ربما يقود إلى خسارته . وانطلاقاً من هذا المبدأ حرصت الأعراف و التقاليد المصرفية والقوانين منذ بداية الأعمال المصرفية، على مبدأ السرية المصرفية، وصار هذا المبدأ الذهبي حجر الزاوية في العمل المصرفي و إحدى الركائز الأساسية التي يقوم عليها وتاريخياً بدأ العمل المصرفي مع بداية تطور الأعمال التجارية و بمرور الزمن تطورت الأعراف و التقاليد المصرفية حتى أصبحت مبادئ ثابتة و معروفة في العمل المصرفي. مبدأ السرية المصرفية تم وضعه في قضية شهيرة أمام المحكمة العليا في إنجلترا و هي قضية " .......... ضد بنك الاتحاد الوطني البريطاني" (1924) حيث قضت المحكمة أن الالتزام بالسرية المصرفية التزام قانوني نتيجة للعقد الذي ينظم العلاقة بين البنك و العميل و بموجب هذا العقد هناك شرط حتمي وأساسي يلزم البنك و يحتم عليه الحفاظ على السرية المصرفية و كتمانها بل أن المحكمة الموقرة قالت صراحة أن التزام البنك التزام قانوني و تعاقدي وليس مجرد التزام أخلاقي أو أدبي، وعليه فإن إخلال البنك بهذا الالتزام القانوني التعاقدي لأي سبب يمنح العميل الحق في المطالبة بالتعويض.. و لقد ذهبت المحكمة الانجليزية العليا إلي أكثر من هذا، و ذلك بتحديدها للحالات التي يجوز فيها للبنك الإفصاح عن بعض المعلومات المصرفية كحالات استثنائية من القاعدة العامة. و الحالات تتمثل في الإفصاح وفقا للقانون، و الإفصاح بموافقة العميل، و الإفصاح عند الضرورة لمصلحة المصرف، والإفصاح عندما يكون هناك خطر عام على الدولة أو المجتمع و بما تقتضيه المصلحة العامة. . ووفقاً للحالة الأولى، و استثناء من القاعدة العامة، يتم الإفصاح عند استلام تعليمات من المحكمة المختصة استناداً إلى القانون وفي العادة تقوم المحكمة بطلب المعلومات من البنك المعني عن طريق البنك المركزي وليس مباشرة وهذا يدل على الحصانة القانونية التي تحمي أسرار العملاء. وفي الحالة الثانية يتم الإفصاح عند وجود موافقة من العميل وهذه الموافقة قد تكون صراحة أوضمنا ودائمة أومؤقتة. وفي الحالة الثالثة يتم الإفصاح عندما تقتضي الضرورة الإفصاح لمصلحة البنك وذلك مثلا عندما يحدث نزاع قانوني بين البنك وعميله و بموجبه يحصل البنك على أمر قضائي يطالب فيه العميل بدفع المستحقات الناجمة على حسابه المكشوف أوغير ذلك من الالتزامات الأخرى. وفي الحالة الرابعة يتم الإفصاح عندما يكون هناك خطر عام أو ضرورة اجتماعية تحتم ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة و ذلك عندما يقوم البنك مثلا بتقديم المعلومات لسلطات الضرائب عند تهرب الشخص من سداد الضرائب..... إلخ . وبالنسبة للولايات المتحدة نلاحظ أنها سارت على النهج الإنجليزي حيث صدرت أحكام قضائية تبين أن هناك التزاماً قانونياً و تعاقدياً على البنك وبموجب هذا الالتزام التعاقدي لا يجوز الإفصاح عن المعلومات المصرفية الخاصة بالعملاء إلا بموجب القانون أوبموافقة العميل نفسه . . و إمعاناً في تأكيد مبدأ السرية المصرفية فإن العديد من الدول وعلى الرغم من اتباعها للتقاليد وللأعراف المصرفية السائدة إلا أن هذه الدول ولمزيد من الحرص عملت على إصدار تشريعات خاصة لتنظم وتقنين مبدأ السرية المصرفية وهذه الدول نظرا لأنها تتبع نظام القانون "المدني" قامت بإصدار التشريعات و لم تترك هذا الأمر للمحاكم و ذلك عكس الوضع في الدول التي تنتهج نظام القانون "العام". و من الصعوبة بمكان التحدث عن كل الدول التي لها تشريعات خاصة تتناول تنظيم السرية المصرفية ولكن لإلقاء بعض الضوء سنتحدث عن بعض الدول الرائدة في مجال العمل المصرفي. والمثال البارز نجده في سويسرا هذا البلد الصغير المعروف للجميع بالسرية المصرفية، و لقد أصبحت هذه الصفة علامة مميزة لسويسرا. بل أن مبدأ السرية المصرفية أصبح صناعة قومية في سويسرا يعمل الجميع على ازدهارها ويحرص عليها كل فرد نظرًا لأن هذه الصناعة أصبحت من مصادر الدخل الأساسية للدولة، كيف لا والتقارير المصرفية تشير إلي دخول ما بين 2 إلى 3 تريليونات دولار سنوياً من الخارج للإيداع في البنوك السويسرية. نقول هذا، ولا يفوتنا أن نقول إن سويسرا قد أدخلت في 2009 بعض التعديلات علي قوانينها للحد من السرية المصرفية المطلقة و ذلك انصياعاً للضغوط التي واجهتها من أمريكا وأوربا و غيرهم. وعلى الرغم من أن سويسرا تحترم السرية المصرفية وفقاً للأعراف والتقاليد المصرفية إلا أنها نصت على ذلك في القانون المدني السويسري حيث تم النص على أن السرية المصرفية من الحقوق الفردية الشخصية التي يجب حمايتها ويجب المحافظة عليها، و كل من ينتهك هذه الحقوق يعاقب جزائياً إضافة إلى حق العميل في المطالبة بالتعويض على كل الأضرار التي لحقت به. و نلاحظ التشدد في النص على العقوبات الجزائية وهذا ما تنفرد به سويسرا دون غيرها من الدول الأوروبية التي تعطي الحق في المطالبة بالتعويض فقط دون العقوبة الجزائية. والقضايا التي رفعها اليهود ضد البنوك السويسرية وموظفيها ليست بعيدة عن البال وما زالت الملاحقات القضائية في العديد من الدول من ورثة الهولوكوست مستمرة ضد البنوك السويسرية و موظفيها. وبصفة عامة نشير إلى أنه و بالرغم من تعديل القوانين في سويسرا انصياعًا للمد و الجزر العالميين إلا إن سويسرا ما زالت تتبع تقاليد عريقة في سرية الأعمال المصرفية مما يظل يجعلها في الريادة والمقدمة، ومن المهم أن نذكر أن الحكومة السويسرية قالت إنها لن تسمح إطلاقاً بالتدخلات الأجنبية في هذا الخصوص وأنهم من ناحية المبدأ سيقررون في كل حالة على حدة واستنادا إلى القانون. . و في ألمانيا نلاحظ أن مبدأ السرية المصرفية ينص عليه الدستور الألماني حيث يجب المحافظة علي مبدأ السرية المصرفية لأنه يتعلق بالحقوق الفردية للمواطن. هذا ولقد قررت المحاكم الألمانية أن المحافظة علي هذه السرية غير ملزمة عندما يكون هناك إخلال بالدستور و ذلك ترجيحاً لمبدأ المصلحة العامة على الخاصة وكل من ينتهك الدستور يفقد الحصانة التي يمنحها له الدستور . بعض الدول وإمعاناً في السرية كانت تسمح بفتح الحساب المرقم ب"الكود" أو "الرمز" فقط من دون ذكر اسم العميل، وهذا النوع من الحسابات ظل موجودًا في العديد من الدول وتحت الرقابة المشددة، إلا أنه ونتيجة للضغوط الكبيرة في الوقت الحاضر تم وقف مثل هذه الحسابات لأنها بكل أسف ظلت تستخدم في غسل الأموال وتمويل الإرهاب والتهرب من الضرائب و سرقة الأموال العامة وغير ذلك من الممارسات الإجرامية سيئة النية من شخصيات أنانية قذرة.... إن للسرية المصرفية أهمية خاصة ولكن هناك انتقادات كثيرة في الوقت الحاضر موجهة لمبدأ السرية المصرفية، وهذه الانتقادات ترتكز علي أن السرية تعطي الفرصة للتحايل علي القانون و تجاوزه وأن هناك أموالاً يتم وضعها في الحسابات المصرفية الُمغلقة وأصل هذه الأموال مرتبط بجرائم تهريب ومخدرات ورشاوي وسرقات.. وأن وضع هذه الأموال (القذرة) في الحسابات يتيح غسلها بالطرق القانونية وبالتالي يستفيد واضعو هذه الأموال من السرية. مما لا شك فيه أن العمل المصرفي يقوم على مبادئ أساسية من ضمنها مبدأ السرية المصرفية الذي نعتبره ( مبدأ ذهبياً) ويجب الحرص على هذا المبدأ الذهبي حتى يكون العمل المصرفي مفيدا للأفراد بصفة خاصة و للنشاط الاقتصادي بصفة عامة. إن التمسك بالسرية المصرفية أمر مهم يجب الحفاظ عليه لزرع الثقة في النفوس و حتى لا نعود إلى حفظ الأموال "تحت البلاطة". وعلينا المحافظة على السرية آخذين في الاعتبار التمسك بالاستثناءات القانونية أعلاه و ذلك حتى يتطور العمل المصرفي و يرتفع إلى أبعد الآفاق. كما، علينا في الوقت نفسه أن نتخذ كل التدابير الاحترازية و الإجراءات الوقائية للحيلولة دون استفادة الجريمة وأصحاب النفوس الضعيفة الخائنة من هذا المنفذ الحضاري الذي يمثل في نظرنا حماية للحقوق الدستورية الشخصية و الفردية في إطار المصلحة العامة.. بصفة عامة لا بد من حماية الصناعة المصرفية لتظل نظيفة وبعيدة من أيدي الخونة عديمي الذمم، و لكن علينا بنفس القدر، الحرص علي تطبيق القوانين وفق الإطار المحدد الذي شرعت من أجله . و يجب عدم تجاوز هذا الإطار وإلا وقعنا في المحظور وهدمنا أعرافا وقوانينا ومبادئ دستورية ثابتة تم وضعها عبر كفاح طويل أدى بدوره لتجذر هذه الأعراف والتقاليد حتى صارت حقوقاً شخصية دستورية أساسية... و نقولها قوية ، لنجفف منابع الإجرام و بؤر الفساد و المفسدين..... قبل الإسراع بإلقاء اللوم على الصناعة المصرفية العريقة وتضييق مساراتها ، لأن الوقاية خير من العلاج.... د. عبد القادر ورسمه غالب المستشار القانوني و أستاذ قوانين الأعمال بالجامعة الأمريكية بالبحرين