الخدمة المدنية تحت رماد الاغتراب المهني محمد الصائم محمد درجت الأستاذة ندى أمين في كتابات راتبة على التعرض بصورة هادفة لبعض قضايانا السودانية والتي تقعد بالبلاد والعباد. وكانت مقالتها الأخيرة الأربعاء الثامن من أبريل بعنوان "الخدمة المدنية تحت رماد الاغتراب المهني". وهي مقالة رصينة تجيء في وقتها تماماً وتتعرض للعديد من مشاكلنا المزمنة، مع الإشارة في مكانها الصحيح أن مثل هذه المشاكل ليست حصراً على بلادنا وإنما تعاني منها تقريبا كل دول العالم الثالث. ومع أنني بدأت من حيث انتهت أختنا في الغربة الأمريكية سابقاً، ومسؤولة الإعلام بالبنك الدولي مكتب الخرطوم آخر عهدي بها في الماضي القريب، إلا أنني أحمد لها تلك الإشارة لأننا في السودان صرنا بين طائفتين؛ بين مطرقة من ينسب كل سوءة للحكومة، وكأننا قبلها أو بعدها كنا وسنكون في أعلى عليين، وبين سندان أنصار الحكومة الذين يحسبون كل صيحة عليهم ولا يألون جهداً في تجاهل النقد وتبخيس من يشير لكساد بضاعتهم في إصلاح حال البلاد والعباد. وبعد تعرض الكاتبة ندى أمين لسمات الخدمة المدنية عندنا في السودان بما وصفته من أمراض التكدس والتكيس والتيبس والتسيب، وبعد إظهار زهدها - إن لم أقل تهكمها - في العقلية البوليسية التي أظهرتها الوزيرة إشراقة سيد محمود، مالت الكاتبة لإفراد حَيِّز ضخم من مقالتها لدور الفساد الإداري والمؤسسي والمالي على مستوى بعض القيادات. هذا مع استحسان الكاتبة ومعها كثير من موظفي الخدمة المدنية المخلصين، لجهود الوزيرة لإصلاح وتطوير الخدمة المدنية، متفقين في الغاية ومختلفين في الوسيلة. ثم عمدت بعد ذلك لتقديم موعظة أخلاقية عن النزاهة والكفاءة ومحفزات الرقابة الذاتية وما شابه. لا يمكن لطاعن أن يطعن في سلامة المقصد عند المناداة بتلك المُثل والصفات الشخصية.. ومن محاسن الصدف ولعله من مساوئها أيضاً أن هذه المقالة جاءت في نفس يوم نشر نتائج التحقيق حول حادثة القنصلية في جدة. وتلك الحادثة المشهورة تضرب بعرض الحائط بكل ما وصفته الكاتبة من تكدس وتكيس وتيبس وتسيب، والحادثة أيضاً لا تأبه لما يقال عن الفساد بالمعنى الذي تذهب إليه المعارضة من ولوغ في الأموال الحرام. ومع أن الكاتبة ألقت بكلمات الفساد الإداري والمؤسسي لتحيل إليها أسباب تلك الحادثة الكارثة، لكن ما يربك أنها تشير ايماءً وتصريحاً إلى أن أُس البلاء في أمر خدمتنا المدنية هو الفساد على مستوى بعض القيادات. وحتى أريح وأستريح فإنني أرى العلة الحقيقية القاعدة بأي أمل في تقدم البلاد لا تتعلق بالأفراد بأية درجة فاعلة. نعم للأفراد جلطاتهم التي تؤذي وتُغرق السفينة بما فيها. لكن معضلتنا الأساسية هي في النُظم. النظم الجيدة لا تحتاج ملائكة لتطبيقها ولا تحتاج عباقرة بعلوم الصواريخ. يمكننا أن نصرخ ليل نهار حول فساد الأفراد وتعدياتهم وسوء إدارتهم. لكن الحقيقة هي في أنظمتنا التي تخلق بيئة مناسبة للعاطلين عن المواهب ولعديمي الخيال ولأعداء النجاح وللمرضى النفسيين للتقدم لقيادة مؤسسات تعنى بخدمة الجماهير والتخطيط لمستقبل البلاد. وبعيداً عن جدل الدجاجة والبيضة والأفراد والنظم التي يضعونها. ومعذرة إن استعرت من التجربة الأمريكية. لديهم مكتب المفتش العام، مثله مثل المراجع العام. تجد أرقام الهواتف المجانية للمفتش العام موزعة في المكاتب الحكومية للتبليغ عن أي سوء تعامل أو سلوك أو إجراء خاطئ. وفي الأوراق الحكومية يضعون متوسط الزمن المطلوب لتعبئة الطلبات مرفقاً بأرقام الهاتف للاتصالات والشكاوى والمقترحات لو تعلقت بأية معلومة مطلوبة يرى مقدمها ألا حاجة لها. هذا مقترح للبداية بها فقط في أمر خدمتنا المدنية، وأمر مثل هذا يتيح للمواطنين المساهمة بفعالية في التصدي لأية إساءة ويعلمهم الحفاظ على حقوقهم. الأمر الأهم في نظري ليس فقط إتاحة الفرصة للتظلم، ولكني أستغرب أين تذهب منظماتنا المدنية وقوى المجتمع الفاعلة ومدعي النضال من التصدي لأي مرفق تتم فيه إهانة الإنسان عبر تقديم خدمة دون المستوى اللائق بالكرامة الإنسانية. يمكنني أن أعدِّد الأمثلة والشكاوي كما ذكرت الكاتبة عن التعامل السلبي للموظفين وعدم وجودهم أثناء ساعات الدوام جهات مثل الجوازات والإحصاء واستخراج الشهادة السودانية والتوثيق بالخارجية والأراضي وتصديقات المباني والمحاكم والعرائض والإعلامات و(بعض) مكاتب الضمان الاجتماعي والمغتربين والعياذ بالله وهلم جرا. تتراوح الشكاوى بين سوء السلوك والإهانة وعدم توفر المعينات المساعدة لتقديم الخدمة أو حتى تقديمها بطريقة غير لائقة؛ مثل أن يكون الموظف داخل المكاتب المكيفة والمواطن تحت هجير الشمس. ومن أغرب الشكاوى أن يكون الموقع ضيقاً صغيراً غير صالح لاستقبال البني آدمين طالبي الخدمة كما جاء عن لجنة التقصي في حادثة جدة. والأسوأ أن يتعرض طالبو الخدمة للإهانة لعدم توفر الأرانيك والاضطرار للحضور لها مع بزوغ الفجر، وهذا الشح يدفع لتوفيرها بكل السبل الملتوية من محسوبية واستغلال منصب. معظم هذه الملابسات لا تتعلق بالأفراد وتربيتهم الخاطئة من آبائهم أو جودة التربية ولا تتعلق بوجود محفزات وظيفية أو رقابة ذاتيه وغيرها مما يعتمد على المواعظ والخطب والصلاح والتقوى أوالضلال والغي، ولا تتعلق بالتكدس والتكيس والتسيب. العلة هي في الأنظمة والعقول التي تسمح بتوزيع 100 أورنيك يومياً لمقابلة مسؤولين سافروا من الخرطوم لتقديم الخدمة في جدة حيث الآلاف المؤلفة من طالبي الخدمة. وإذا كان من استثناء للجهات التي تحترم آدمية السوداني فيمكن التنويه والإشادة بمواقع التقديم للرقم الوطني داخل السودان. ومن عجب أنها كانت من الجهات التي نالت أكبر النصيب من الشكاوى في حادثة جدة!!! ولإيقاد شمعة بدلاً من لعن الظلام، وعطفاً على مقالات سابقة لبعض المختصين مثل المهندس محمد الحسن عبد الكريم عن دور المعلوماتية في التنمية السودانية، ومثل كتابات عادل عبد العزيز الفكي ومناداته بتطبيقات تقنية المعلومات والاتصال في السياسات والمالية العامة، أتقدم بعدة مقترحات في هذا الشأن. أولاً يجب إزالة الإهانة عن السودانيين بإتاحة جميع الطلبات الحكومية عبر الانترنت؛ من رقم وطني أو جوازات أو خلافها. لا أقول بتعبئتها الكترونياً فهذا مطلب عسير في الظرف الحالي فقط نطالب بجعلها متاحة للطباعة ثم التعبئة اليدوية. وأمر آخر، لا داعي إطلاقاً للتدافع من الآلاف للحصول على فرصة المقابلة أو التقديم بينما الممكن خدمة مئات فقط. عليه يجب البحث عن طريقة للحجز مقدماً بأية طريقة إلكترونية عبر الانترنت أو بالهاتف والرسائل القصيرة أو حتى الحضور شخصياً للحصول على إيصال برقم وزمن وتاريخ محددين. وهنا يأتي دور منظمات الشباب والطلاب والناشطين وغيرها في تحديد القصور من أية جهة يصعب الحصول على خدماتها بالعدد المعقول في الزمن المعقول وحتى بالرسم المالي المعقول. ويمكن للشباب والناشطين إقامة المواقع التي تقدم إحصاءات لحسن المعاملة أوسوئها وتُقَيَّد الشكاوى ضد المفسدين بالمعنى المخل بآدمية السودانيين، وتنطلق الحملات للتعبئة ضد أي مسؤول قيادي كبير أو وسيط أو صغير لا يتصدى للحلول في القضايا التي تهم المواطنين. كفى مطاردة للأرقام المالية الوهمية والمتخيلة لفساد المسؤولين. يكون الحساب عبر أرقام الخدمات المقدمة. وعبر الضغط يمكن تقوية قوانين الحصول على المعلومات الصورية الموجودة الآن للحصول على أرقام حقيقية مالية وتخطيطية وخدمية ومقارنتها بالمطلوب والمنفذ. حتى العقود محل الشبهات يمكن التعامل معها بما يحسم المتلاعبين. وهنا يحضرني القصص المثيرة التي تنطلق بين آونة وأخرى حول الأوقاف الإسلامية أوغيرها. ويا حبذا لو تبنت منظمة الشفافية السودانية والتي أشار لبوادر قيامها الأساتذة عبدالدائم زمراوي والدكتور الطيب مختار، لو تبنت قيام موقع يختص بالعقود الحكومية والمشتريات العمومية. البنك الدولي لديه موقع يعرض ويطرح للمنافسة جميع المشاريع الممولة دوليا والتي تتجاوز قيمتها المائة ألف دولار. ويمكن لذلك الموقع مستعينا بالمختصين والخبراء في مجالهم أن يقدم تحديثا دوريا للصرف على المشاريع ومدى تقدم الأعمال المنفذة والجهات المتعاقد معها، وبالتالي تظهر للضوء أية شبهة فساد وافساد. ولا أظننا نطالب بمستحيل، فقبل أيام قامت واحدة من محليات دارفور بنشر اعلانات مدفوعة لتبين المشاريع المصدقة والعطاءات المقدمة والجهات المتعاقد معها وأساب رفض المتقدمين الآخرين، في شفافية لم أر مثلها حتى الآن في السودان الحبيب