في عائلتنا امرأة مكافحة وأم مثالية هي ابنة خالي (سيدة محمد)، وهي امرأة مات عنها زوجها وتركها في منتصف الطريق، وكانت وقتها في عنفوان شبابها وقد ترك لها ثمانية من الأبناء خمسة ذكور وثلاث إناث. عضت (سيدة) على جمر الصبر وهي تكافح وتناضل من أجل تربيتهم وتعليمهم. ولم يخيب الأبناء ظنها حيث ظلوا يتربعون على عرش التميز الأكاديمي والأخلاقي، وكان التفوق حليفهم في دراستهم ولم يحدث قط أن استلم أحدهم نتيجته داخل الصف. كانت نتائجهم تذاع دوما في طابور المدرسة لأنهم أوائل فصولهم عن جدارة واستحقاق. المُلفت في الأمر في قصة كفاح (سيدة) وتميز أبنائها، أنها كانت تُخبِّئ نتائجهم وتفوقهم عن أعين الناس، وتخشى عليهم من العين والحسد، وكل من يسألها عن نتيجتهم كانت تتعمد تمليكه معلومة خطأ وعلامات أقل ودرجات أكثر تواضعا. وفي نهاية كل عام دراسي، كان أبناؤها يتسابقون إلى فناء الدار كل منهم يحمل شهادته وعليها الدرجة الكاملة وفي الأعلى كلمة الأول تزين صدرها، ولكن (سيدة) كانت تخبرهم علي الدوام أن يدخلوا من أبواب متفرقة وهي تتمثل قول سيدنا يعقوب عليه السلام: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) صدق الله العظيم. الآية (67) سورة يوسف وظلت (سيدة) تخبئ نتائج أبنائها حتى وصل أبناؤها المرحلة الجامعية وتخرجوا من كبريات الجامعات. الآن أبناء سيدة هم من كبار الاستشاريين والمهندسين في أعظم المستشفيات والشركات في أمريكا وأوروبا ودول الخليج. امرأة كافحت وربت وعلمت من غير من ولا أذى ومن غير بوبار وفشخرة ومن دون مباهاة واستعراض بنتائج أبنائها كحال البعض اليوم. إن ما دعاني لتذكر قصة (سيدة) حمى (الإذاعة) التي تجتاح أولياء الأمور مع بدء مؤتمري شهادة الأساس والشهادة الثانوية، حمى أصبحت تلخص قصة مثابرة الأبناء ورهق الأسرة ومجهود المدرسة في كلمة واحدة: (ذاعوك ولا لا؟). فوبيا جديدة وفكرة غير صالحة تلخص تميز التلميذ في إذاعته من عدمها، حتى أصبح المؤتمر الصحفي لإعلان الشهادة كابوسا يخشاه الأبناء ويسرق الفرحة من قلوب الأسر ويخطف الأضواء من بريق (البورد). إن التميز الأكاديمي ونجابة الأبناء، أمر مُبهج للروح والقلب وشفاء كبير لما تعتل به الأنفس من رهق الدراسة طوال العام، ولكن أن يقترن هذا النجاح بالإذاعة فقط أو بتذكير الابن بأن "ابن عمك فلان وابن ناس علان ذاعوهو وإنت ما ذاعوك"، فهذا لعمري جريمة في حق هؤلاء التلاميذ اليافعين. كما أن ارتباط فكرة النجاح بالإذاعة صار يخصم الكثير من أرصدة الفرح ويُلقي بظلال سالبة على نفسيات التلاميذ ومعنوياتهم. يوم أمس، كنت شاهدة على تجربة إحدى الأسر، والتي نصبت سرادق العزاء فقط لمجرد أن ابنها أحرز مجموع 276، وكانوا يأملون في إذاعته. الأسرة قابلت ابنها بسيل من الانتقادات والسخرية اللاذعة والتقريع والتأنيب كان كافيا لأن يهجر التلميذ الدراسة نهائيا. أسرة أخرى تحدثت معها فوجدتهم جميعا يكذبون في درجة ابنتهم، فالأم تقول درجة والأب يقول درجة والابنة تقول درجة ثالثة، والله يعلم ماذا يقول البورد. إن مسألة الكذب في النتيجة وفي الدرجات وأحيانا أمام الأبناء صارت عادة عند الكثيرين وهي ممارسة تضر أولا بمستقبل ونفسية التلميذ أكثر من غيره، فما ضرر الآخرين أو نفعهم في درجات هذا أو ذاك، إنما يبقى الواقع الذي يحتم علينا أن نتصالح مع مجهود أبنائنا ومقدرتهم على التحصيل ومسؤوليتنا تجاههم وما قدمناه لهم أولا وأخيرا. خارج السور: بحبك يا رهف سهير عبد الرحيم هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته